صندوق النقد ينتفض: “لا معنى للمفاوضات مع لبنان”
علي نور
لم يكن ما جرى في الاجتماع التفاوضي الأخير بين الوفد اللبناني ووفد صندوق النقد، تفصيلاً في سياق الأزمة التي تضرب البلاد. في بداية الاجتماع، شرع الوفد اللبناني في محاولة التفاوض مجدداً على كيفيّة مقاربة الخسائر في النظام المالي، منطلقاً من بعض المقاربات التي تحاول التملّص من تحديد الخسائر ومعالجتها بشكل صريح، ربّما بالاستفادة من الدفع الذي قدّمته لجنة تقصّي الحقائق باتجاه تقليص حجم الخسائر، التي حددتها سابقاً خطّة الحكومة. كل ذلك أدّى إلى انفجار رئيس وفد الصندوق في وجه المفاوضين اللبنانيين، مستعملاً عبارات توحي بنعي مسار المفاوضات نفسها.
حجم الخسائر
ردّ فعل رئيس وفد صندوق النقد الدولي مارتين كريسولا كان قاسياً وغير مسبوق، وربّما غير متوقّع من طرف الوفد اللبناني. انتفض كريسولا مذكّراً الوفد اللبناني بأنّ المفاوضات لم تحرز بعد ستة أسابيع من إنطلاقها أي تقدّم، معتبراً أن المحادثات تدور مكانها، ولم يتم الانتقال حتّى الآن من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية منها. بصريح العبارة، قال كريسولا “لا نستطيع الاستمرار على هذا النحو، لا يوجد جديّة في تنفيذ الخطّة الماليّة، ولا يوجد جديّة في تنفيذ أي إصلاحات. وإذا لم يكن هناك أي جديّة في أي من هذه الأمور، فلا معنى للمفاوضات التي نجريها”.
لا يمكن فصل هذا الموقف الحاد من رئيس وفد صندوق النقد، وقبله تصريح مديرة الصندوق نفسها، عن ما يجري على الساحة اللبنانيّة، وتحديداً مستوى التعاطي مع خطّة الحكومة، التي جرى إعدادها سابقاً بالتعاون مع شركة لازارد. فالخطّة التي تضمّنت تقديراً صريحاً لحجم خسائر القطاع المالي، والتي تفاءل استشاريو الحكومة بها لكونها تمثّل أرضيّة ملائمة للنقاش مع صندوق النقد، جرى اغتيالها مؤخراً بضربات مركّزة، كان مصدرها أوّلاً عمل لجنة تقصّي الحقائق في البرلمان اللبناني، قبل أن يتخلّى عن الخطة داعموها داخل الحكومة نفسها، لتسقط ويسقط معها الرهان على مسار التفاوض مع الصندوق.
دميانوس قطار وحسان دياب
في اجتماع ضمّ رئيس الحكومة ونائبته وجمعيّة المصارف والوزير دميانوس قطّار ومجموعة من استشاريي الحكومة، كان لافتاً مبادرة الوزير قطّار إلى نفض يديه من الخطّة، معتبراً أنّه صوّت معها انطلاقاً من مبدأ التضامن مع الحكومة. فيما اعتبر رئيس الحكومة أمام مستشاريه أنّ حكومته لا تجد نفسها ملزمة بتطبيق الخطّة الماليّة التي صوتت عليها. في تلك اللحظة، ينقل الحاضرون في الاجتماع أن الدهشة خيّمت على وجوه الاستشاريين الذين تبادلوا النظرات القلقة، مدركين أنّ رئيس الحكومة تنصّل أمام جمعيّة المصارف من الخطّة، التي عملوا عليها مع شركة لازارد، وشرعوا في التفاوض مع صندوق النقد على أساسها.
باختصار، اختارت الحكومة الإنكفاء تدريجيّاً أمام هجمة لجنة تقصّي الحقائق على أرقام خطّتها الماليّة. وهو ما أطاح بمقاربات الخطّة الصريحة التي أزعجت في وقت سابق كل من مصرف لبنان وجمعيّة المصارف. وعمليّاً، يمكن فهم استقالة كل من مستشار وزير الماليّة وعضو الوفد اللبناني المفاوض هنري شاوول، ومدير عام وزارة الماليّة آلان بيفاني من زاوية هذه التطورات. خصوصاً أن شاوول وبيفاني كانا من أبرز الوجوه التي عملت على صياغة خطة الحكومة والترويج لمقاربتها في موضوع خسائر القطاع المالي. ولذلك، يقرأ المتابعون هذه الاستقالات بوصفها انكفاء للفريق الذي حمل الخطة وراهن عليها لإنجاح المفاوضات مع صندوق النقد، في مقابل نجاح الفريق الذي أراد إسقاط الخطّة، وربما مسار التفاوض مع الصندوق نفسه. وهو ما يتناسب مع مصالح أطراف عديدة من بينها حاكم المصرف المركزي وجمعيّة المصارف.
فالمصارف وحاكم المصرف المركزي، وبمعزل عن تحفّظهما على خطّة الحكومة، التي تحمّل جزء من الخسائر لرساميلهما، باتوا يملكون أيضاً أسباباً وجيهة للتوجّس من مسار المفاوضات مع صندوق النقد نفسه. فبحسب ما تبيّن من الجلسات التفاوضيّة، يبدو من الواضح أن وفد الصندوق يرفض أي مقاربات لا تضمّن الاعتراف الصريح والمباشر بجميع الخسائر التي لحقت بالقطاع المالي نتيجة الانهيار. كما يرفض الصندوق أي خطّة للمعالجة لا تتضمّن معالجة هذه الخسائر، بما يفضي إلى ترشيق ميزانيّات القطاع المالي، وتنقيتها من الفجوات الموجودة فيها حاليّاً. ولذلك، يبدو أن هناك مصالح عديدة تقاطعت بهدف اغتيال الخطة الحكوميّة أوّلاً، والإطاحة بمسار المفاوضات مع صندوق النقد ثانياً. وهذا تحديداً ما حصل خلال الأيام الماضية، من خلال انقلاب لجنة تقصّي الحقائق على خطّة الحكومة، وتنصّل الحكومة نفسها من خطّتها، ومن ثمّ يأس صندوق النقد من ملف التفاوض مع لبنان.
إجماع غريب.. والثنائي الشيعي
من الملفت في كل هذه التطوّرات، إجماع الكتل النيابيّة الكبرى على مساندة مسار عمل لجنة تقصّي الحقائق الذي أطاح بخطّة الحكومة، وعلى إجماع الرؤساء الثلاثة على دعم عمل اللجنة. ولذلك، ثمّة من يتحدّث عن تسويات عديدة جرت بعيداً عن الضوء للتوصّل لهذه النتيجة، التي ترضي حاكم المصرف المركزي والمصارف، وتبعد عنهما كأسين مُرّين: تحديد الخسائر في خطة رسمية واضحة، والدخول في برنامج مع صندوق النقد، قد يجبر لبنان على معالجة هذه الخسائر.
في موقف الكتل البرلمانيّة والأقطاب السياسية، برز التساؤل الأوّل عن مصلحة “الثنائي الشيعي” في التقاطع مع حاكم المصرف المركزي والمصارف، ودعم هذا المسار بالتحديد. مع العلم أن الثنائي وفّر أيضاً غطاء للحاكم داخل مجلس الوزراء، من خلال عرقلة مسار تكليف شركة كرول بإجراء تحقيق جنائي في حسابات المصرف المركزي. وهو المسار الذي أصر عليه كل من رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهوريّة، لتصوير الحاكم بهيئة المرتكب الذي تفتش في سجلاته شركات التدقيق الأجنبيّة. هنا تذهب بعض التحليلات للحديث عن تسويات معيّنة جرت بين حركة أمل وحزب الله والحاكم، ومنها على سبيل مثال قرارات تتعلّق بضخ الدولارات عبر شركات الصيرفة. مع العلم أن كثيراً من التساؤلات أثيرت في وقت سابق حول سبب لجوء المصرف المركزي إلى ضخ الدولارات للمستوردين عبر شركات الصيرفة، التي لا تملك القدرة على مراقبة عمليّات التحويل والاستيراد وفتح الاعتمادات، بدل اللجوء إلى ضخّها عبر المصارف، التي تملك آليّات أفضل لمراقبة هذه الأمور.
من ناحية التيّار الوطني الحر، من الواضح أن ثمّة جناحاً وازناً داخل التيّار تمكّن من فرض دعم تكتّل لبنان القوي في البرلمان لمقاربات لجنة تقصّي الحقائق، وقد برز كل من آلان عون ووزير الاقتصاد السابق رائد خوري، كأبرز داعمي هذا التوجّه، بالإضافة إلى إبراهيم كنعان نفسه الذي أشرف على عمل اللجنة. ولعلّ هذا الجناح داخل التيّار انطلق في دعمه لمقاربات اللجنة من خلفيات ذات طابع طائفي، تتعلّق تحديداً بالحضور المسيحي داخل القطاع المصرفي، وبالتوجّس من أي معالجات قد تؤثّر على مساهمات مالكي المصارف الحاليين. ومن هنا، يمكن فهم مواقف رئيس التيار جبران باسيل، التي دعمت في المقابل خطّة الحكومة كنوع من توزيع أدوار، للحفاظ على صورة باسيل أمام السفارات الأجنبيّة، التي تراقب عن كثب المواقف المحليّة المتصلة بالأزمة.
المستقبل غير مطمئن
تلاقت المصالح إذاً، وتقاطعت إرادة الكتل النيابيّة على دعم جهود كنعان ولجنته، وتقاطع الرؤساء الثلاثة على الموقف نفسه، فيما تراجعت الحكومة عن خطّتها وبدأت الاستقالات في صفوف مؤيدي الخطّة. عمليّاً، لا يوجد ما يطمئن في المرحلة المقبلة. فالإطاحة بمسار التفاوض مع صندوق النقد يعني الإطاحة بالورقة الأخيرة التي كان يمكن أن تفرض على السلطة معالجات جديّة، ولو بكلفة معيشية واجتماعيّة باهظة. وكون الحكومة لا تملك أي رهان آخر، ولا تعمل على أي خيار مختلف، فالأكيد أن ملف المعالجات سيبقى متفلّتاً من أي خطّة متناسقة، تعيد توزيع الخسائر بشكل عادل ومنطقي.
في هذه الأثناء، يثابر مصرف لبنان على تقليص الفجوة في ميزانياته وميزانيات المصارف ومعالجتها على طريقته، عبر دفع قيمة الودائع الدولاريّة بالليرة اللبنانيّة، متسبباً بتضخّم غير مسبوق في الكتلة النقديّة بالعملة المحليّة. وهو ما يدفع بسعر الصرف إلى التهاوي، في ظل شح الدولار النقدي في الأسواق.
باختصار، سيكون على اللبنانيين تحمّل كلفة هذا النوع من المعالجات، بغياب أي تصوّر أو خطّة حكوميّة تسير الدولة على هديها.
المدن