بريد القراء

ما هي أقدم مهنة في التاريخ؟ (بقلم أ . إيمان غندور)

كثيراً ما سمعنا في نقاشات وحوارات أكاديمية أجابات متعددة حول أقدم المهن في التاريخ البشري:
سمعت أحياناً البعض من أساتذتي يقولون أن البغاء هو أقدم المهن في التاريخ البشري، بينما اتفق آخرون بأن السحر والشامانية هي أقدم المهن، وآخرون مالو الى إعتبار مهنة الرعي والزرع مع ما يلزمها إبتكارات بدائية كانت هي أول المهن التي قامت في حضارات سحيقة اُقيمت على ضفاف الأنهر، وفي حوار مع صديق لي يقرأ التاريخ كثيراً قال لي بأن الصيد والقنص هو أقدم المهن على الإطلاق، مع الإشارة الى أن جميع هذه الآراء تستند الى نظريات كثيرة تدعم صدقيتها وتبررها.
فالرأي المتحيز للنظرية الخاصة ببيع الهوى كأقدم مهنة، ربط ذلك بالقداسة وأسماه البغاء المقدس، أو بغاء المعبد وهناك إشارات إلى هذا في الثقافات القديمة لحضارات العراق القديم كالحضارة البابلية والسومرية واليونانية، حيث تم تشريح وتوصيف هذه الممارسات على نحو دقيق، وحول ذلك شرح أبو التاريخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد في كتابته عن أسفار بابل أن الأموال التي كانت تحصلها المرأة بعد أدائها لواجب الجماع المقدس كانت أموالاً مقدسة.
أما من خالف نظرية البغاء كأقدم مهنة في التاريخ البشري كشف عن المهنة الأقدم على الإطلاق: وههي مهنة السحر،ويقول الباحثون أن الشامان، أو المعروفين بالأطباء السحرة كانوا المحترفين الأوائل في الإنسانية، ويقول أحد طلاب الدراسات العليا “مانفير سينغ” في قسم البيولوجيا التطورية في جامعة هارفرد أن ضعف الإنسان وعجزه يجعله أكثر ما يحتاج الى تفسيرات حول ظواهر طبيعية غامضة محيطة به وخارجة عن سيطرته وخارج حدود وعيه كتعاقب الليل والنهار، وتعاقب الفصول وما يرافق ذلك من تغيرات طبيعية ومناخية، كما حاجته لتفسيرات بيولوجية تصيبه كالمرض والموت والولادة والطمث، وهذه كلها ظواهر كان الإنسان عاجزا عن فهمها وتفسيرها خاصة في فترة كان الوعي البشري في نقطة الصفر ولا وجود لأي تفسيرات علمية، وهكذا تصبح حاجته للطمأنينة هي الحاجة العليا ما يبرر وجود الأطباء الروحانيون أو السحرة (الدايلي ميل).
كما قال البعض أن مهنة الرعي هي أقدم المهن أنتجت منظومة معارف وخبرات وعادات ومعتقدات وتقاليد وآداب وفنونكما لعبت دوراً هاماً في التواصل الاجتماعي والثقافي.
أما عن رؤية صديقي الذي يعتبر الصيد والقنص أقدم المهن،فهو يميل الى ترفيع الأنوثة الى حيثما تستحق من مكانة في مروحة عطاء غريزي طبيعي يتجاذبها “الرجل الصياد” و”الأنثى المنتظرة” لما سيحمله الطرف الخارج من أسرة الكهف الى قاطنيه من رحلته الدورية بحثاً عن صيد ثري يساعدهم على البقاء والإستمرار، ولإتمام هذه المهام تعلم البشر استعمال الأحجار الحادة والعصى المدببة، كأسلحة تعينهم على قيامهم بممارسة أقدم مهنة في التاريخ: القنص والصيد لتكون هذه المهنة أول عمل منظم يقوم به النوع الإنسانى الذى ما لبث أن اكتشف النار فأنضج اللحوم، ثم تطور تصويته فنشأت الأشكال المبكرة لمنظومة اللغة، ثم استمع إلى صوت قلبه المبدع فرسم على جدران الكهوف صور الحيوانات التى يخرج من كهفه لصيدها بالشراك وقنصها بما يتيسر من أسلحة، وكان الرجال هم الذين يخرجون عادة للقنص، وتبقى فى الكهوف نساؤهم لرعاية الصغار وتهيئة المطلوب من الحطب والعيدان الجافة وقطع الأخشاب، لشى الفريسة التى سيعود بها الرجال.. ولأن أعمار البشر آنذاك كانت قصيرة، ونادراً ما كان الفرد يبلغ من العمر الثلاثين، لوعورة الحياة وانعدام المعارف الطبية وقسوة الطبيعة، كان لابد من ازدياد معدل التكاثر وفقاً للقانون الطبيعى الذى يقضى بضرورة زيادة معدل التناسل كلما كانت فترة حياة الفرد أقصر زمناً وعوامل فنائه أكثر تهديدا.ً
وبشكل تلقائى، كانت النساء تتيح للرجال العائدين من جولات الصيد والقنص، أجسادهن.. فهذا الرجل البدائى، بدورة حياته السريعة ونمط حياته فى الطبيعة العنيفة، مهتاج كثير الطلب لقضاء الوطر، وكانت النساء، لزيادة معدل النزف عند الطمث بسبب حيوية نمط المعيشة، فى احتياج أشد للبروتين الحيوانى لتعويض الفاقد من دمائهن خلال الدورة الشهرية.. وهكذا، كان من المعتاد أن تنشط عمليات التناسل بإتاحة النكاح واستسلام النساء للرجال، على سبيل المكافأة.
إنَّ مراحل التطور الإنساني عبر قرون كثيرة طالت كل أشكال المكونات الثقافية والحضارية للمجتمعات التي إنتقلت من بدائية الى مُركبة، من عشائرية قُبلية الى حضارية، أو حسب التقسيم الذي قدَّمه هنري مورغان عام 1881 والذي إعتبر المجتمعات تتطور من مراحل متوحشة نحو همجية دنيا ووسطى ثم عليا وصولاً الى مراحل متمدنة ومتقدمة من التنظيم الإنساني.
وإذا بدأنا بإسقاط نموذج التطور البشري على المهن التي رافقت الإنسانية كالصيد نموذجاً، سنجد أن الإنسان في المجتمعات البدائية مارس الصيد بطريقة بدائية فطرية لإشباع حاجات بيولوجية، ومع تطور المجتمعات وتعقيدها تعقدت ممارسات وسلوك الإنسان وتعقَّد معها سلوكه وتوحش، والذي كان يصطاد لإشباع حاجات بيولوجية إنتقل ليصطاد بغية إشباع طمع وغرور وغرائز حيوانية متوحشة لا نهاية لها ولاحدود لإشباعها، وهذا الإنتقال تمثًّل بممارسات وحشية همجية ذئبية تنبأ بها هوبز، فكان الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، يفترسه بأسلوب وجهه أبيض وباطنه عفِن، يقتنصه بمظهر باسم وقلب يُضمر السوء والشر والطمع وكل المفاهيم المتوحشة الدنيا فكانت تلك الممارسات بمثابة تجديد البيعة للنبي هوبز.
وإن كنت أمام إتجاهين أو إحتمالين لا ثالث لهما: إما أن أكون ذئباً يأكل أو حملاً يُؤكل، تبقى النجاة بالإنسحاب بألا أكون أي منهما، ويبقى اليقين بأن السلام الروحي صديقي على وسادتي حتي يتراجع اليهود واتباعهم عن مبدئهم الخطيرالذي يقول بأن لا قيمة في الحياة الا للمال والنجاح في تحصيله…… فهذه كانت الجرثومة الأصل التي مهَّدت بعد ذلك في نفوس الآدميين من جوائح للطمع والجشع والتوحش.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى