طرابلس على كف عفريت: أدوار الأجهزة والمجموعات المشبوهة
مرّت ليلة الاثنين 15 حزيران في طرابلس هادئةً، بعد تنفيذ الجيش لعملية مداهمة ألقى فيها القبض على أكثر من 35 مطلوبًا، بتهمة الإخلال بالأمن وإثارة أعمال الشغب والتخريب. هذه التوقيفات، بدت وكأنّها تهدئة لـ “اللعبة” وحسب، في وقت لا تزال فيه كلّ المؤشرات توحي أنّ عاصمة الشمال مقبلة على مرحلة خطرة بأمنها وعيشها، في ظلّ الحديث عن تضارب “أجندات” تُحضَّر لها، داخلًا وخارجًا.
الأجندات المشبوهة
قبل الاثنين، مرّت ثلاث ليالٍ من التوتر الأمني الشديد، كانت كفيلة أن تنقل طرابلس من مرحلة “عروس ثورة 17 تشرين” إلى مرحلة العبث بالأمن والسلم الأهلي. وما إن يحلّ موعد الغروب في المدينة، حتّى يدبّ الذعر في نفوس أهلها، خوفًا من الاعتداءات السافرة على أرزاقهم وممتلكاتهم وبيوتهم، وربما حياتهم.
والمخطط المرسوم من قبِل جهات مختلفة تتقاطع في مصالحها، يصبّ في خانة المعادلة الأمنية نفسها التي سبق أن رُسمت لطرابلس عمدًا: الناس بوجه الجيش.
والثورة التي صارت مطيّةً لبعض الأجندات المشبوهة، تدفع طرابلس ثمنها غاليًا، وكأنّها “صندوق البريد” السياسي والأمني الرديف لبيروت، لا بل المتقدّمة عليها. لا مبالغة بالقول أنّ مشهد الانتفاضة الشعبية التي عاشتها المدينة شهورًا منذ اندلاع ثورة 17 تشرين الأول 2019، يغيب كليًا عن مشهد ساحاتها اليوم؛ وتحديدًا ما بعد أحداث 6 حزيران، ورفع شعار “نزع سلاح حزب الله”، كان أول من أطلقته مجموعات من طرابلس، وفي طليعتهم جماعة “المنتدى”، الذي يديره المحامي نبيل الحلبي بدعمٍ من بهاء رفيق الحريري.
في نهار كل يوم بعد ليالي العنف، كان ينقشع الغبار عمّا أفسده “المخربون” ليلًا بأرزاق وممتلكات المواطنين العزّل، الذين لم يبقَ لبعضهم سوى مورد رزقٍ صغير يقتلعون منه قليلًا من الليرات التي فقدت قيمتها. والذّروة كانت نهار السبت (راجع “المدن”)، مع تحول أوتوستراد “باب التبانة” إلى ساحة معركة حقيقية، دارت بين شباب من المنطقة وعناصر الجيش، وسقط ضحيتها أكثر من 80 جريحًا، أحيوا ذاكرة جولات العنف مع جبل محسن بين عامي 2007 و2014.
سرديّة “سبت التبانة” تخفي الكثير في السياسة والأمن. أما “ذريعة” القبض على شاحنات المواد الغذائية فقد ظهر زيفها، بعدما تبيّن لاحقًا أنّها تابعة للأمم المتحدة ،وتتجه خطّ ترانزيت إلى الداخل السوري كمساعدات، وليست تجارة تهريب. والقسم الأكبر منها لا تزال محتجزة في مرفأ طرابلس، وفق معلومات “المدن”، وعددها 39 شاحنة، تنتظر إشارة “أمنية” لإطلاق سراحها، وتأمين خطّ عبورها من دون أيّ صدام مع الناس.
“المنتدى” ومجموعات أخرى
المشهد الميليشاوي والتشبيحي الذي عاشته طرابلس ثلاث ليالٍ متتالية، وهي قابلة للتجدد، طرحت أسئلةً أثارت سجالًا كبيرًا: لمن تتبع المجموعات التي تثير الفتن والخراب في طرابلس؟ ولمصلحة مَن تدفع هذه المجموعات إلى استرجاع سيناريو المعارك ضدّ الجيش والخصومة معه؟
سارعت بعض الشخصيات والقيادات في طرابلس، إلى توجيه أصابع الاتهام لـ “سرايا المقاومة” ورمي المسؤولية كاملة على عاتقها بكل ما شهدته طرابلس من دمار وخراب. لا شكّ أنّ أزلام “سرايا المقاومة” موجودون وفاعلون في طرابلس مع حلفائهم بالسياسة، منذ سنوات، وإن بطرقٍ ملتوية وغير مباشرة. لكنّ تحميلهم وحدهم مسؤولية ما شهدته طرابلس، هو اجتزاء كبير للحقيقة وتضليل لها.
ثمة افرازات لجماعات جديدة في الشارع السني، بدأت تنشط بقوّة في طرابلس، لا يمكن غضّ النظر عنها. واللافت في هذه الجماعات، أنّها تسعى في سلوكياتها على الأرض أن تكون النسخة مقلِّدة لسلوكيات حركة أمل وحزب الله في الضاحية الجنوبية والخندق الغميق. يكفي للتثبت من ذلك مراقبة حركتهم على مئات الدرجات النارية، قبل ساعات من بدء أعمال الشغب، في خطّ نار واحد داخل المدينة، بين “ساحة النور” ومتفرعاتها وطريق الميناء و”الضم والفرز” والمعرض وأمام السرايا وعند ساحة التل، من دون أن يتجرأوا على التوغّل في عمق بعض المناطق السكنية والشعبية، مثل القبة وأبي سمراء وغيرهما، لأنهم يدركون أنّ أيّ مسٍّ لأرزاق الناس وممتلكاتهم في هذه المناطق، سينقلب عليهم ويكون أبناؤها بالمرصاد لهم.
وقد حصلت “المدن” على لائحة طويلة بأسماء قيادات مثيري الشغب في طرابلس والداعين له، تتحفظ عن ذكرها، لما في ذلك من حساسية كبيرة في الشارع الطرابلسي، الذي يغلي تحت الرماد. والمثير للعجب، أنّ جميع الأجهزة الأمنية تعرف هذه الأسماء وخلفياتها، وكأنّها تغضّ النظر عنها، وتكتفي بإلقاء القبض على “صغارهم” من الأولاد والشباب الذين قبلوا الارتهان للعبة الشغب، وأغلب الأحيان مقابل مبالغ زهيدة قد لا تتجاوز 20 ألف ليرة للواحد منهم، فيما هم ضحايا البطالة والفقر والحاجة والتهميش والعزل والتسرّب المدرسي، ويدفعون الثمن وحدهم في نهاية المطاف.
وإذا أردنا فرز قادة “التشبيح” الذين يثيرون الشغب في طرابلس، فنجد أنّهم ينقسمون إلى قسمين: قسم منهم يعمل على طريقة فرض “الخوّات”، ويسعى لتحصيل المال من أصحاب الأرزاق والمكاتب السياسية والمحال التجارية والمطاعم والمقاهي، مقابل تأمين الحماية لهم و”كفّ البلاء” عنهم تحت شعار “الأمن الذاتي”. وقسم آخر ينتمي إلى الجماعات الحديثة في الشارع السني، ويعمل بتوجيه سياسي لإطلاق رسائلها في الشارع.
عمليًا، وبعد 3 ليالٍ من الشغب في طرابلس أمضتها “المدن” في الشارع، وتواصلت مع مئات الشباب لسؤالهم عن إنتماءاتهم، تبيّن أنّ معظهم ينتمون إلى جماعات “المنتدى” وربيع الزين وحزب سبعة وعدد كبير من أسماء “المفاتيح الانتخابية” و”قادة المحاور” الذين كانوا يعملون سابقًا لصالح بعض التيارات السياسية في المدينة التي تخلّت عنهم لاحقاً.
في السياسة، وحسب معلومات خاصة بـ “المدن”، ثمة تنسيق حديث انطلق منذ فترة بين الوزير السابق معين المرعبي والعقيد السابق عميد حمود وشخصيات سنية أخرى مع المنتدى المدعوم من بهاء الحريري. لكن على مستوى الشارع، استطاع “المنتدى”، الذي أصبح يضم تحت لوائه مئات الشباب في طرابلس وعكار، أن يستقطب عددًا من قادة الشارع الطرابلسي ومفاتيحه أمثال (ع. ق.) الذي نشط بقوة مع آخرين في الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدينة. وخلال جولة في الشارع ليل الأحد، التقت “المدن” بجلال سلمى، الذي يعرّف عن نفسه بأنه “الناشط السياسي والاجتماعي” ويدير مجموعة من “17 تشرين” كما يسميها، تضم نحو 200 شاب. وهو يعمل بالتنسيق الكامل مع “المنتدى”، قال: “نحن مع كل رجل يدعم الثورة، وليس من الطبقة السياسية. والشيخ بهاء الحريري ليس من هذه الطبقة. وهو رجل أعمال، وهذه ليست تهمة. ونحن مع الجيش للحفاظ على البلد والسلم الأهلي. كما أننا بريئون من كل أعمال الشغب. وعندما نقول كلن يعني كلن، الشيخ بهاء حتمًا ليس واحد منهم. وشعارنا هو استرداد الأموال المنهوبة ومنع تسلط دويلة حزب الله على الدولة”.
أما مجموعة ربيع الزين الذي لا يزال موقوفًا تحت قبضة جهاز أمن الدولة، فكان لافتًا أنّها لا تزال تنشط بالمئات في الشارع، تحت شعار “كلنا ربيع الزين”. وثمة معلومات أنّهم يتلقون الدعم من “جناح أمني”، يؤمن لهم غطاء التحرك في الشارع. وكذلك حزب سبعة، ينسق مع أحد الشخصيات الشعبية البارزة في المدينة (أ. ف)، والذي غالبًا ما يطلق فيديوهات مصوّرة تدعو فيها الناس للنزول إلى الشارع بشعارات تحريضية. وكانت قد دعت إلى التصدي لمرور الشاحنات في الشارع قبل أن يتطور لمعركة مع الجيش عند اوتستراد التبانة. لكنّ اللافت في هذه الشخصية أنّها لا تشارك على الأرض في أيّ تحرك أو أعمال شغب، وإنما تكتفي بالحشد لها قبل أن تتوارى عن الأنظار!
استباحة الأرزاق
عدد من المحال التجارية ومكاتب السفريات والمطاعم والمقاهي دفعت ثمنًا غاليًا في أحداث طرابلس الأخيرة، بعد محاولات العبث فيها أو إحراقها أو الإستيلاء على محتوياتها. في “ساحة النور”، تحول محل “بوظة البشير” إلى وكرٍ متفحّمٍ بعد إضرامه بالنيران عدّة مرات، إلى جانب تحطيم عدد كبير من مكاتب السفريات وتحويل الأموال. وفي ليالي الشغب الأخيرة، تعرض محل “أبو صبحي للشاورما” عند طريق الميناء ومطعم “بيستاشو” عند مستديرة الميناء لمحاولات الاعتداء برشق الحجارة والتحطيم، وكذلك محل “برغري” في شارع نقابة الأطباء، الذي شهد ليلة الأحد محاولة اعتداء مفاجئة فأصيب رواده بالذعر بعد أن جرى سلب عدد من هواتفهم على الطاولات. وقال أحد موظفي “بيستاشو” لـ “المدن”: “تفاجأنا ليلًا بعددٍ من الأولاد والشباب الذين حاولوا رشق محلنا بالحجارة واقتحامه، فقمنا بالتصدي لهم وأغلقنا أبوابه على الفور”. وفي أحد شوارع المعرض، تعرض مقهى الثنائي “سارة وكريم” للاعتداء أيضًا. وصاحبته سارة الغرّ التي سبق أن شاركت في تظاهرات 17 تشرين مع زوجها كريم، قالت لـ “المدن”: “اتصل بنا موظف المحل ليل الأحد، وأخبرنا أن عددًا من الأولاد والشباب يعتدون على محلنا، ويحاولون الاستيلاء على بعض طاولاته، فيما الجيش كان يقف متفرجًا عليهم. وهؤلاء من المستحيل أن يمثلوا ثورة 17 تشرين وحلمنا الكبير بها”. تابعت مستنكرةً: “نحن مواطنون عزّل نعمل يوميًا باللحم الحيّ، ولا نجد من يحمينا. وهناك من يسعى للقضاء على آخر قطرة أمل بالحفاظ على أرزاقنا عبر تشويه الثورة وقمع ناسها”. فـ”هل المطلوب أن نلجأ للأمن الذاتي لحماية أنفسنا وأرزاقنا بينما نحن لا نجيد فعل ذلك؟”.
الأخطر الآن، أن ثمّة معلومات عن بدء انتشار السلاح على نطاق واسعٍ في طرابلس، وبعض أصحاب المحلات والمطاعم والمكاتب بدأوا بتوفير أمنهم الذاتي حفاظًا على ممتلكاتهم. وفي ساحة التل التي جرى الاعتداء فيها على المخفر أيضًا، لجأت بلدية طرابلس لوضع سورٍ من الباطون أمام حرم المبنى التابع لها، وكذلك فعلت سرايا طرابلس وفرع مصرف لبنان الذي لفّ سوره الحديدي بالأسلاك الشائكة.
ويبقى السؤال: هل ستشهد طرابلس في الأيام المقبلة توترات أكثر شدّة؟ أم أنّ الضرب الأمني بيدٍ من حديد حان أوانه لدى سلطةٍ تتآمر على شعبها؟