اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

أهل الكرنتينا ومأساة الانفجار: هل نستحق هذا العذاب؟

جنى الدهيبي

عند حائط منزلهما المهدد بالسقوط، في منطقة الكرنتينا، تجلس الشقيقتان أليس وآرينت ضوّ على كرسيين، كحارستين مفجوعتين بذكريات 4 آب الأليمة، رغم الكسور التي منيت بها قدميهما. 

لن ننسى.. لن نسامح
تصف أليس (50 عامًا) العزباء، المنزل الذي ورثته مع شقيقتها من والديها المرحومين، بـ”التراثي القديم ذات السقوف العالية والأعمدة والحدائد المزخرفة. مساحته تتجاوز 240 متراً مربعاً، وعمره أكثر من 100 عام”. تعيش في هذا المنزل مع شقيقتها آرنيت (55 عامًا) التي تزوجت وأنجبت فيه ولدًا صار شابًا، لكنه أصيب إصابةً بليغة في عينه من انفجار المرفأ، كذلك زوجها أصيب في ظهره، “الذي تحول إلى كتلة زرقاء منتفخة”، على حدّ وصفها.  

قصّة أليس وآرينت، واحدة من قصص أهالي “الكرنتينا”، الذين دفعوا ثمن محاذاتهم لمرفأ بيروت، فلم يترك عصف الانفجار فيها حجرًا على حجر. قالت أليس لـ”المدن”: “رغم آلامنا الجسدية والنفسية، نجلس هنا يوميًا على الرصيف لنحرس منزلنا إلى أن يصبح صالحًا للعيش، لا نريد بديلًا عنه مهما كلّف الثمن. ولن نسامح. ولن ننسى دولتنا المجرمة”، تقاطعها آرينت لتقول: “لقد نهبوا أموالنا في المصارف وأصبحنا كمن يستجدي المساعدات، ودمروا حياتنا ومستقبل أولادنا. لكن لم نعش كلحظات الإنفجار حتّى في عزّ الحرب الأهلية، وقد وصل فسادهم لقتلنا وتشريدنا من منازلنا، لكننا لن نستسلم”. 

اللحظات العصيبة
وفي جولةٍ ميدانية، ينجلي فيها مشهد الدمار المهول الذي خلّفه انفجار المرفأ، في منطقة المدوّر ومن ضمنها “الكرنتينا”، أو ما كان يُعرف بـ”المسلخ”. هذه المنطقة التي ما زالت منذ عقودٍ خارج رعاية الدولة وبلدية بيروت، وقد عانت أخيرًا من السموم المنبثقة من معامل النفايات، بدا واقعها كأنه تعبير حقيقي عن المعنى الإصطلاحي لاسمها: “المحجر الصحي”، بعد أن كان “محجر الكرنتينا” يستقبل قبل عشرات السنين، الركاب القادمين من مرفأ بيروت على متن السفن و”البوابير” كما كانت تسمى.  
لم تقوَ بيوت “الكرنتينا” المتهالكة على الصمود أمّا عصف الانفجار. بعضها صار من دون شرفات وشبابيك، وبعضها من دون أسقف، والبعض الآخر دُمّر بالكامل. بعد 11 يومًا من وقوع الانفجار، ورغم اكتظاظ المنطقة بحركة الجمعيات الكشفية والخيرية التي دبّت لتقديم المساعدات الغذائية والعينية لأهالي “الكرنتينا”، إلّا أن ذلك لم يبلسم جراحهم وفاجعتهم الكبيرة بخسارةٍ أحبّةٍ وإصابة آخرين ودمار أرزاقهم ومنازلهم.  
في باحة منزله الأرضي الذي صار من دون جدارٍ وأبواب عند أوّل حيّ “الكرنتينا”، يجلس جوزيف نصر (64 عامًا)، يقاوم حزنه بالابتسامة للمّارة، ويدعو من يراه لإحتساء فنجان قهوةٍ معه، حتّى يحكي له قصّته مع انفجار المرفأ. يحمد جوزيف الله أنه كان وحيدًا في المنزل عند وقوع الانفجار، من دون أولاده، وزوجته كانت في عملها. يجول مع “المدن” في منزله كي تشهد على معاينة أضراره الهائلة، ثمّ يخرج إلى باحته الخارجية مشيرًا بإصبعه إلى سيارته “التاكسي” المحطمة ليقول: “حتّى هذه لم تسلم من الانفجار الذي أصاب منزلي ومصدر رزقي الشحيح”. تابع: “في تلك اللحظات العصيبة لوقوع الانفجار، شعرت أن طيراناً حربيًا يجول في السماء، ثم بدأ المنزل والأرض تهزّ تحت قدمي، إلى أن دوى الانفجار الكبير، فوجدت نفسي على حائط الغرفة معلّقًا كبوستر”. 




تاريخ من التدمير
وواقع الحال، يبدو أنّ معظم أهالي “الكرينتينا”، مقتنعون برواية “الطيران الحربي” الذي ضرب مرفأ بيروت، ولا يريدون تصديق سواها حتى ولو ثبت العكس. هذا ما قالته أليس وشقيقتها قبل جوزيف، وهذا ما أصرّ عليه ريمون درعوني (61 عامًا) بالقول: “سمعت صوت الطيران بأذني قبل أن يدوي الانفجار، لا أريد أن يقنعني أحد بغير ذلك”.  
ريمون وهو واحد من أهالي “الكرنتينا”، يروي لـ”المدن” قصّته المأساوية بعد أن صار منزله غير قابل للعيش. يقف في الشارع، ويشير بإصبعه إلى منزله في الطابق الأول قائلًا: “أنا واحد من المستأجرين القدامى في المنطقة، ولدت وعشت وتزوجت وصرت أبًا لثلاث بنات في هذا المنزل الذي استأجرته عائلتي منذ 90 عامًا، وقد ضُرب مرتيّن في الحرب الأهلية قبل ضربته الأخيرة: مرة في العام 1978، ومرّة أخرى في العام 1981، وهبط بالكامل حينها، ثمّ أعدنا ترميمه ليدمر من جديد”.

خراب الكرنتينا
 
حين دوى الإنفجار، كان ريمون يركن سيارته، وكانت زوجته وابنته (29 عامًا) في المنزل.  زوجته تأذت وقطّب جسدها الذي تناثر فيه الزجاج بـ 45 قطبة، بينما ابنته كانت إصابتها بليغة، لأنها هرعت لإنقاذ أمها، ولم تكن ترتدي الحذاء، فاخترق الزجاج أسفل قدميها وقد ضرب بالعضل، وهي لا تسطيع المشي حاليًا قبل فكّ 55 قطبة. ريمون الذي كان مدير مبيعات، خسر عمله قبل سنوات بسبب إجرائه عملية “القلب المفتوح”، كذلك زوجته خسرت عملها نتيجة إصابتها بالسرطان، فيما بناته لم يجدن فرصة عمل لائقة بعد تخرجهن. ختم قائلًا: “نحن عائلة تختصر مأساة آلاف اللبنانيين، مصابون ومرضى وعاطلون عن العمل ومستأجرون قدامى لبيت مهدد بالسقوط قد نخسره أيضًا في حال لم يبادر أحد لتصليحه”. يسأل مستنكرًا: “هل نستحق فعلًا كل هذا العذاب؟”.  

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى