اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

هل يمكن مقاضاة «إسرائيل»؟ آليات متوافرة وإرادات مفقودة

لونا فرحات

مع استمرار العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني في غزة، يتصاعد الحديث عن مقاضاة إسرائيل على جرائمها الدولية، ويصطدم ذلك بحديث آخر حول أن القانون الدولي أضعف من أن يحاسب أو يعاقب من ينتهك قواعده الملزمة. وهذا صحيح، لأن القانون الدولي لا يملك السلطة التنفيذية الدولية اللازمة لتطبيق قواعده الملزمة، غير أن هذه القواعد تتضمن آليات عدة للمحاسبة والمعاقبة، من بينها معاقبة مرتكبي الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تتجه كل الأنظار نحوها اليوم لمعاقبة منفّذي الجرائم الصهيونية.وسيخوض محامون من دول مختلفة، وخصوصاً فرنسا، معركة تمثيل ضحايا جريمة الحرب الإسرائيلية أمام المحكمة المذكورة. كما تحرّكت بعض الدول، كجنوب أفريقيا وبوليفيا وبنغلادش وجزر القمر وجيبوتي، لطلب إحالة ما يحدث في غزة إلى هذه المحكمة، في خطوة تُعد الأولى من نوعها ضد مسؤولين إسرائيليّين بشكل رسمي. لكن السؤال يبقى: هل ينضم الأردن إلى قائمة هذه الدول، وخصوصاً أنه من أولى الدول التي صادقت على النظام الداخلي للمحكمة، وله علاقات ديبلوماسية مع الكيان؟

ماذا عن محكمة العدل الدولية؟
اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة الجماعية) من أول الصكوك الدولية التي أعدّتها وأقرّتها الأمم المتحدة بعد إنشائها. وبموجب هذه الاتفاقية، قُنّنت جريمة الإبادة الجماعية للمرة الأولى. فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية الإبادة الجماعية في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1948، كالتزام من المجتمع الدولي بشعار «عدم تكرار ذلك أبداً»، أي عدم تكرار الفظائع التي ارتُكبت في الحرب العالمية الثانية.

وشكّل اعتمادها خطوة حاسمة نحو تطوير القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي كما نعرفه اليوم.
وتعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها «أي من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه؛ قتل أعضاء الجماعة؛ التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضائها؛ إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة؛ ونقل أطفالها قسراً إلى مجموعة أخرى». وقد اعتمد هذا التعريف على نطاق واسع على الصعيدين الوطني والدولي، بما في ذلك في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998.
وتنص الاتفاقية على التزام الدول الأطراف باتخاذ تدابير لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بما في ذلك عن طريق سن التشريعات ذات الصلة ومعاقبة الجناة، «سواء كانوا حكاماً مسؤولين دستورياً أو موظفين عموميين أو أفراداً عاديين» (المادة الرابعة). واعتبر هذا الالتزام، إضافة إلى حظر عدم ارتكاب الإبادة الجماعية، من قواعد القانون العرفي الدولي، وبالتالي ملزماً لجميع الدول، سواء صدقت على اتفاقية الإبادة الجماعية أم لا. واعتباراً من كانون الأول 2019، صدّقت 152 دولة على الاتفاقية أو انضمت إليها، وآخرها موريشيوس في 8 تموز 2019، فيما دولة واحدة، هي جمهورية الدومينيكان، وقعت على المعاهدة ولم تصدق عليها. أما إسرائيل فقد وقعت اتفاقية الإبادة الجماعية في 11 كانون الأول 1948 وصادقت عليها في 9 آذار 1950. لذا، فإنها لم تخالف فقط قواعد القانون الدولي الإنساني، بل انتهكت أيضاً التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
ويمكن مقاضاة إسرائيل كدولة (بالنسبة إلى الدول التي تعترف بها) من قبل دولة أخرى لانتهاكها اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها أمام محكمة العدل الدولية. فالمادة التاسعة من الاتفاقية تنص على أن «تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة». وبناءً عليه، أصبح لمحكمة العدل الدولية، بموجب المادة التاسعة، ولاية قضائية على المنازعات «المتصلة بتفسير أو تطبيق أو إنفاذ» الاتفاقية. وفي قضية «البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود»، أيّدت محكمة العدل الدولية أنه يمكن بالفعل أن ترتكب الدول جريمة الإبادة الجماعية، وأن المحكمة يمكن أن تبت في القضية عملاً بالمادة التاسعة. وقد رفعت إلى المحكمة دعاوى عديدة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، لكن لم تتوّج بحكم نهائي سوى قضية واحدة هي «البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود». ونظرت محكمة العدل الدولية أيضاً في دعوى تعتبر سابقة قضائية بين الدول هي تلك التي رفعتها غامبيا في تشرين الثاني – نوفمبر 2019 ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية. وارتكزت الدعوى على حملات القمع العسكرية الوحشية التي شنتها القوات الحكومية البورمية عامَي 2016 و2017 وأجبرت أكثر من 700 ألف من الروهينغا على الفرار عبر الحدود إلى بنغلاديش.

واتهمت غامبيا ميانمار (بورما) بعدم الالتزام باتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية والقيام بأعمال ترقى إلى الإبادة الجماعية في عملياتها ضد أقلية الروهينغا في تشرين الأول -أكتوبر 2016 وآب – أغسطس 2017 . وأكدت محكمة العدل الدولية أنّ «غامبيا، بوصفها دولة طرفاً في اتفاقية الإبادة الجماعية، لها صفة الاحتجاج بمسؤولية ميانمار عن الانتهاكات المزعومة لالتزاماتها بموجب المواد الأولى والثالثة والرابعة والخامسة من الاتفاقية». وأمرت محكمة العدل الدولية حكومة بورما «باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها» لحماية مسلمي الروهينغا من الإبادة الجماعية. وأصدرت المحكمة الحكم في 23 كانون الثاني – يناير 2020، واصفة 600 ألف من الروهينغا المتبقين في بورما بأنهم «معرضون للغاية» للعنف العسكري. وأمرت بورما بتقديم تقارير منتظمة إلى المحكمة عن التقدم الذي أحرزته. ومثل الحكم توبيخاً حاداً للسلطة الحاكمة في ميانمار. فمحكمة العدل الدولية لا تتمتع بالولاية القضائية للبت في الأعمال الجنائية، لكن لديها سلطة إصدار حكم ملزم قانوناً بشأن ما إذا كانت بورما قد انتهكت التزاماتها بموجب القانون الدولي. واللافت في هذه الدعوى أن غامبيا تقدمت بها باسمها وبالنيابة عن 57 دولة عضواً في منظمة التعاون الإسلامي. لذا، ثمة إمكانية كبيرة لرفع دعوى ضد إسرائيل من أي دولة من الدول الموقعة على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهي في الوقت عينه عضو في منظمة التعاون الإسلامي وتقيم علاقات ديبلوماسية مع الكيان الصهيوني. وكان من المتوقع أن تتخذ منظمة التعاون الإسلامي خطوة مماثلة وتتقدم بدعوى أمام محكمة العدل الدولية عبر إحدى الدول الأعضاء ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
مقاضاة إسرائيل بآليات قانونية دولية متوافرة وممكنة، لكنها تتطلب إرادة فعّالة وحقيقية. فالقانون الدولي ليس هو الملام في حال انتهكت أحكامه وقواعده الملزمة، بل الدول التي تدار من قبل سلطات سياسية لا تتفق حساباتها مع قيم العدالة وإحقاق الحق. وثمة بصيص أمل يتجلى في بداية يقظة دولية وإن بدت الآن ضئيلة وغير كافية. ولكن الرهان على الوعي الحقوقي للشعوب التي تستطيع أن تغير مجرى التاريخ، وتجبر حكوماتها على التحرك الفعلي بدلاً من الصمت المخزي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى