اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

“الأزمات” تُفكّك التعليم الرسمي في لبنان: أطفال بلا علم

جودي عتيق وأسماء حموي

خيّم مشهد غامض على بداية العام الدراسي في المدرسة الرسمية. ففي حين يتطلّع وزير التربية عبّاس الحلبي «بتفاؤل إلى السنة الدراسية المقبلة»، لا تزال صرخات الأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الأساسي تدوي مطالبة للحصول على مستحقاتهم الماليّة، ويسألون عن وعود بدل النقل، وتصحيح الأجور، وغيرها من «الضمانات» الّتي لم يحصل عليها الأساتذة في العام الماضي، وهم العمود الفقري للتعليم.

‏هل السنة الدراسية على الأبواب أم في مهبّ الريح؟ هاجس يتشاركه أهالي التلامذة في التعليم الرسمي. ويشكّل هؤلاء نحو 342 ألفاً و304 تلامذة، ما يمثّل حسب «الدولية للمعلومات» 33 بالمئة من تلامذة لبنان في العام 2022-2023. لكنّ المعضلة لا تكمن فقط في بدء العام الدراسي من عدمه، بل في «جودة» التعليم، بسبب التدهور الدراماتيكي الذي تشهده المدرسة الرسمية منذ بدء الأزمة في خريف 2019، (غداة إطلاق الثورة) والّذي شخّصه «البنك الدولي» بـ»فقر التعليم»، وتتخلّله فجوة 4 سنوات من تأخر التعليم في المدارس الرسمية. والضّرر أصاب خصوصاً المرحلة التأسيسية الحرجة التي تعثر خلالها الأطفال في اكتساب بديهيات القراءة والكتابة.

في المقابل، تتخلل هذه الأزمة الممتدة بعض مبادرات الدعم الأكاديمي ودورات الاستلحاق من المجتمعات الأهلية، بينما يتّسم تدخّل وزارة التربية بالبطء والحلول الترقيعية، في أداء يواصل غياب السياسات التربوية في لبنان.

زمن «كورونا»



أطفال لم يتعلّموا

إجتاز الطفل أحمد الصف الأول أساسي في مدرسة رسميّة في عكار، ولكنه بقي حتى هذه المرحلة غير قادر على تمييز الحروف والأرقام «أحاول التعويض عمّا فاته في المنزل بمساعدة شقيقته»، تقول والدته بقلق كبير، مقيمة مقارنة بابنتها الّتي باتت تعلّم أخاها بديهيات القراءة والكتابة في المنزل.

وتستعيد الأم سامية من حيّ باب الرمل في طرابلس ما تسميه «كابوس» التعليم عن بعد الّذي «أثبت فشله، خصوصاً في المدرسة الرسمية»، موضحة أنّ طفليها سميح (9 سنوات) وجميلة (10 سنوات) انتقلا من المدرسة الخاصة إلى المدرسة الرسمية في العام الأكاديمي 2020-2021، بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية «كانا يحصدان تقدير جيد جداً، ولكن مستواهما آخذ بالتدهور في المدرسة الجديدة»، عازية الأمر إلى دروس «الأونلاين».

لم يكن في حوزة سامية غير هاتف خلوي واحد، وشبكة الانترنت غير مستقرة والكهرباء في انقطاع دائم، فلم يستطع ولداها الانتظام لحضور الدروس عبر الانترنت، مشككة أساساً بـ»جدوى» التعليم عن بعد. تصرّ الأم على التحاق ابنتها وابنها بالمدرسة، «لا خيار لنا سوى التعليم لأجل مستقبلهم»، بعكس ما تلاحظه من خلال تنامي التسرب المدرسي في محيطها «لأنّ الأهل مثقلين بالأزمة الاقتصادية يفضّلون أن يساعدهم أبناؤهم في تحصيل المدخول».

وفي هذا السياق، دقّت منظمة اليونيسف ناقوس «التسرب المدرسي» في دراستها «لبنان: مستقبل الأطفال على المحك» الصادرة في حزيران 2021، حيث أشارت إلى أنّ 15 بالمئة من الأسر عمدت إلى إيقاف أطفالها عن التعليم، في حين 9 بالمئة من الأسر أرسلت أطفالها إلى العمل.

إستعدّوا (رمزي الحاج)



مبادرات مجتمعية وفرديّة

أسّس هذا الواقع لأولويّات ملحّة لدى الجمعيات المحلية، وتحديداً الفاعلة منها ضمن المجتمعات الأكثر هشاشة، فبعضها بدأ العام الدراسي الجديد بتوقيت مبكر. على سبيل المثال، نظمت جمعية «رواد التنمية» في باب التبانة (طرابلس) دورة مجانية للدعم الأكاديمي للأطفال في المرحلة التأسيسية، وذلك في شهر آب الماضي.

وفي المنطقة نفسها، حوّلت معلمة اللغة العربية والمربية الشابة فاطمة برغيلي غرفة في منزلها إلى ثمانية صفوف تعليم خصوصي ضمن مبادرة أطلقت عليها اسم «مركز طيور السلام»، والتي شجّعت أهالي المنطقة على تسجيل أولادهم لقاء بدل مادي يساوي ألف ليرة لبنانية يومياً. وفي سؤال عن مستوى التلامذة، تأسف برغيلي لتقييمها على نحو «تلامذة في الصف الخامس أساسي يتمتّعون بمستوى الصف الأول»، الأمر الّذي حفّزها بشكل أكبر على متابعة مبادرتها التطوعية الّتي لمست من خلالها تقدّماً في مستوى الأطفال قراءة وكتابة، وتلهّفهم للعلم.

وكذلك يحرص مركز «تجربة» في باب الرمل على تحسين المستوى التعليمي للأطفال وحمايتهم من التسرب المدرسي من خلال باقة من الأنشطة المجانية التربوية والنفسية، وفي مقدّمها دورات التعليم الخصوصي. ويشرح مدير المركز محمد العمر أنّ «الدروس بدأت على نطاق ضيّق مع 6 أطفال خلال فترة الحجر المنزلي، وتستهدف اليوم 120 طفلاً يلتحقون بصفوف التقوية وإنجاز الدروس خلال العام الدراسي».

والملاحظ خلال الجولة الميدانية أنّ هذه المبادرات تشترك في دمج الأنشطة الترفيهية والتربوية، والدعم النفسي، وتوفير بيئة ملائمة نابضة بالمكوّنات الصوريّة والألوان والألعاب المحفّزة لذكاءات الطفل المتعددة، فضلاً عن تمكين المعلمين الذي يؤدّون هذه الدورات. وهي عناصر تفتقد لها معظم المدارس الرسمية. ولكن تبقى المبادرات المحلية محصورة في إطار طاقتها الاستيعابية المحدودة.

أزمة تكيُّف

تنقسم أزمة التعليم الأساسي في المدرسة الرسمية إلى شطرين: ظرفيّ وهيكليّ، بحيث يمكن اختزال المآل بـ»أنّ التراجع في جودة التعليم تسارعت وتيرته ولكنه لم يكن مفاجئاً».

وتعتبر الخبيرة التربوية البروفيسور ريما مولود أنّ نقطة البداية هي في تفشي «كورونا». وإذا كانت البيئة التعليمية الرسمية عموماً غير مهيّأة للتكيف مع التعليم عن بعد، فإنّ تلك الفترة في السنتين 2019- 2020 و2020-2021 قد كشفت ضعفها البنيوي.

وفي متابعتها القريبة لعائلات ومعلّمين، لاحظت أنّ اهتمام الأهالي كان مكرّساً للأولاد الأكبر سنّاً، بحيث كانت لهم الأفضلية في استخدام الهاتف الخلوي أو اللابتوب، إن وجد هذا الأخير.

وكانت مولود رصدت استجابة غير كافية للمعلمين مع منصة «تيمز» (Teams) لعدم اقتناعهم بفاعلية هذا الأسلوب، فجنحت الغالبيّة إلى إعطاء الدروس بطريقة متساهلة، كما لم تُطبّق تدريبات «دار المعلمين» والتوجيهات بتسجيل الفيديوات والتواصل المباشر مع التلامذة، لاجئين خصوصاً إلى اعتماد تطبيق «واتساب» لإرسال الشرح والمتابعة.

ويلعب اختلاف قدرة الاساتذة على اكتساب طرق التعليم الحديث حضورياً والتعليم عن بعد دوراً أساسياً في تراجع المستوى التعليمي في المدرسة الرسمية «وهذا ما نلمسه في الدورات التي تقام في «دار المعلمين»، والأمر يرجع إلى التفاوت في الأعمار بين المعلّمين، ما أنتج اختلافاً جذرياً في الأسلوب التعليمي في الصف الواحد، وتالياً ينعكس على قدرة تلقي التلامذة».

وتلفت مولود إلى غياب الرقابة في المدارس الرسمية لمتابعة المستوى التعليمي، وعدم فرز الوزارة لمنسقين يتابعون تطور المنهاج ويشجعون المعلمين على تطبيق الدورات التعليمية في ظلّ ظروف اقتصادية ترهق كاهلهم ومعنوياتهم.

وليس خافياً تأثير الاضرابات المتوالية على جودة التعليم، بسبب سلب المعلمين أدنى حقوقهم المعيشية، بما فيها تدنّي أجورهم إلى مستوى يعجز عن تأمين الحاجيات الأساسية للمعلّمين وأسرهم. وامتدّت الاضرابات بين شهري كانون الثاني وآذار 2023، وتأثرت بها المدارس الرسمية في المرحلتين الثانوية والأساسية ولو بقيت طوع خيار الأساتذة الذين انقسموا بين ملتزمين وغير ملتزمين بالاضرابات.

عباس الحلبي (فضل عيتاني)


قصور وزارة التربية

من ناحيتها، تذكّر المعلّمة روز في إحدى المدارس الابتدائية في التبانة، أنّ وزارة التّربية اختزلت المناهج ولجأت إلى الترفيعات العشوائية للتلامذة خلال سنوات الجائحة، ما أدّى إلى تدهور مستواهم وضياع اهتمامهم بالدراسة. وكانت تلك المرحلة «بمثابة انقطاع مع التحسن النوعي الذي كنا بدأنا نلمسه في نوعية الكتب التي رصدتها الوزارة لمرحلتي الروضة والابتدائي»، بحسب المعلّمة التي تجد في تدخّلات وزارة التربية «هروباً إلى الأمام».

ولعلّ هذا النهج ليس طارئاً على وزارة التربية، فقد اعتمد لبنان «الترفيع الآلي» لتلامذة صفوف الأول والثاني والثالث ابتدائي منذ عام 1998 بموجب إقرار «المناهج الجديدة» في ذلك الوقت، ليقدم وزير التربية حسن منيمنة على إلغاء هذا الإجراء في عام 2010، بحلول 13 سنة على اختبار هذا الترفيع الذي أنتج جيلاً سابقاً من أطفال في المدارس الرسمية لا يتقن القراءة والكتابة، الأمر الذي يصطدم التلامذة بتبعاته عند وصولهم إلى الصف الرابع ابتدائي حيث تزداد معدلات الرسوب.

وكان المركز التربوي للبحوث والانماء قد رصد بالأرقام هذا الواقع في دراسة «تطور المؤشرات التربوية خلال خمس سنوات 1996-1997- 2000- 2001»، حيث «ترتفع نسبة الرسوب في لبنان كلما انتقلنا من صف إلى صف أعلى. ويتميز الرابع الأساسي بارتفاع نسبته عن باقي الصفوف إذ بلغت 14,46 بالمئة».

ولا ينتظر جيل «التعليم عن بعد» وسنوات الأزمة (2019-….) تقييماً بالأرقام، حيث تتجلى مغبّات الانهيار التعليمي في المدارس الرسمية بشكل مباشر.

وفي حين، يتركّز النقاش العام حول تصرّف وزارة التربية بالهبات والتقديمات المالية الهائلة التي تحصل عليها، خصوصاً من اليونيسف. وكان الباحث في مركز الدراسات اللبناني نعمة نعمة قد لفت إلى هبات تقدر بنحو 2.5 مليار دولار دخلت لبنان تراكمياً منذ 2010 بفضل المنظمات الدولية للنهوض بالقطاع التعليمي الرسمي، وخصصت له الدولة ما يصل إلى 2.3 مليار دولار.

وقد لا يتخطى اليوم تدخّل وزارة التربية الفعلي دائرة «الخطوة الاستدراكية»، وذلك من خلال «المدرسة الصيفية» التي نظّمتها بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ضمن مشروع «كتابي2»، وقد استفاد منه، بحسب صفحة المشروع، «أكثر من 150000 طالباً في 566 مدرسة ابتدائية في جميع أنحاء لبنان»، خلال دورة استمرت لستة أسابيع خلال الصيف المنصرم بهدف التعويض عن الفاقد التعليمي في القراءة والكتابة والرياضيات والاستعداد بشكل أفضل للعام الدراسي القادم، إن بدأ.

وحتى اللحظة، تتضافر العوامل المتسببة بهشاشة التعليم الرسمي في لبنان، لقاء حلول معبّرة عن الخفّة والتنكر لهول الأزمة على جيل كامل من الأطفال وجيل لاحق في لبنان الذي يفقد مع انحلال هذا القطاع أهمّ الرساميل الّتي ميّزته وميّزت اللبنانيين عبر التاريخ.

(*) يُنشر هذا التحقيق بدعم من «الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي» ضمن مشروع «تشغيل»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى