اخر الاخبارمحليات

التراث الفكري العربي في مواجهة “كورونا”
العقل بين فوضى التفسيرات .. وفيروسات الهلع (عصام عزالدين)


* مقدمة :
” طبعاً لا أدّعي أي معرفة ٍ في العلوم الطبية والوبائية …
وما مقالتي هذه .. سوى محاولة لإشباع نهم ٍ شخصي في متابعة التراث العربي الإنساني القديم على مستوى الفلسفة والعلوم والفكر ، ومختلف الميادين التي حقق من خلالها أجدادنا القدماء وثبة ً  إشراقية نوّارة على مستوى الإنسانية جمعاء . ” 

— قال إمام الطب البشري اليوناني” ابو قراط”  في كتابه
” تقدمة المعرفة ” : 
”  اني أرى من أفضل الأمور .. أن يستعمل الطبيب “سالف النظر” ، فإن تقدّم ، وأخبر .. فإنه بذلك كان حريّاً أن يوثق به ”
وأما الطبيب والفيلسوف العربي” إبن سينا” .. فيضيف في معرض ِ مقاربته لمسألة “الطب النفسي” البالغ التعقيد منذ ذلك الزمان حتى أيامنا هذه .. والمعروف بأن  “الشيخ الرئيس” كان من المتقدمين الأوائل في هذه الصنعة التي كان العوام يردّون أسبابها للجِن فيقول في كتابه
” القانون في الطب ”  :
” وقد زعم البعض أن هذا المرض يقع عن الجِن .. ونحن من حيث نتعلم الطب لا يعنينا إن كان يقع عن الجن او غير الجن  بل نبحث في سببه القريب . ” 
إن هذا الرأي العلمي والتجريبي الذي ورد في منطوق نتاج هذين الكبيرين فيه الكثير من النجاعة لمقابلة ما يروْج في زمن جائحة” كورونا” اليوم .. من خرافات نهاية الزمان ، ونبوءات الظهور ، وأسرار المؤامرات ، ونظرية الحروب البيولوجية…
غير ذلك مما فتحه العامّة من بازارات للتأويل والتفسير والتهويل والهرج والمرج الفارغ والأجوف في أكثر الأحيان .
ففي حين وجد البعض بأن “كورونا” هي “جندي” من جنود الله بالتالي فهذا ” الكائن الخفي ” لن يستهدف فرقته في حربه “الإلهية ” بإعتبارها مستثناة من العقاب على قاعدة أبناء الرب أو نظرية الفرقة الناجية .
وهذا ينسحب على ما روجه الكثير من رجال الدين مسلمين ومسيحيين ويهود … في بلاد كثيرة .
و قد راح البعض الآخر ينعي كافة جهود أهل الأرض تاركاً أمر التصدي لأهوال الجائحة للسماء فقط أو إنتظار مخلص ليرفع ما خلفته الجائحة من أهوال على البشرية .
طبعاً نحن لا نشكك أبداً في قدرة السماء .. ولا نقلل من قيمة الدعاء والصلاة  طالما كانت محايثة للعقل المستنير  وجهوده في التوصل للدواء واللقاح الناجع والمناسب . 
إذا لا بد لنا أمام هذا الحجم الهائل من الهرج والمرج السائد اليوم  .. سوى العودة إلى ما نصح به حكماؤنا القدماء …
اي المعالجة بالضد .. ما يعني التسلح بالتروّي والتعقّل وعدم الخوض مع الخائضين .. الأمر الذي يدفعنا إلى سلوك التجربة العلمية الواقعية المستنيرة لتحديد “الأسباب القريبة” والمنطقية للحالة الجارية كما عبّر “إبن سينا ” . 
وطبعاً الإنتشار المدوي لعدوى “كورونا” في كافة أرجاء المعمورة  والذي ضرب الدول المتحالفة والمتخاصمة.
وفتك بأخرى ذات مناعات اقتصادية فائقة .
ولم يستثن  ِايضاً  تلك العالقة تحت خط الفقر والبؤس  
وكذا فتك بالكيانات المتدينة والكافرة على حد سواء  …
ما يحملنا إلى إضعاف نظرية المؤامرات والحروب
وكذلك العقاب الإلهي .
ذلك لأن ” أسلحة” الحروب شرطها الرئيس ان تكون موجهة ، ومحددة … بالتالي فإن الإنتشار الرهيب للجائحة على الكوكب كله  يستبعد مقولة  أنها حرباً او سلاحاً  لإنتفاء شرطي التوجيه والتحديد .
وكذلك الشك في فكرة “العقاب السماوي” الذي لطالما إستثنى
” المؤمنين” أو المُخلَصين او الأبناء المختارين للرب …
بحسب ما عُرف من القصص المنزّلة في الكتب السماوية .
او المرويّات والأحاديث لدى المسلمين أو ما ذكر في “مشنى وجمارا “عند التلموديين ، أو أعمال الآباء والقساوسة في الديانة المسيحية التبشيرية .
و هذه كلها غير متحققة في حالة ” كورونا ” . 
فما هي هذه ال” كورونا” ؟ والتي هي كائن لا ميت ولا حي!!!
بحيث يُستدل من الخريطة الجينية(DNA) لهذا الفيروس بأنه “حي” بالقوة .. وهو  يكتسب ُ وجوده وحياته بالفعل .. بمجرد دخوله إلى رئة الإنسان … كما عبر الخبير في العلوم الجرثومية الدكتور غازي الكيال .  
إذا هو “جرثومة” – كلمة عربية – تعني أصل الشيء وبذرته …
أو “فيروس ” .. فإن اقتصرت تأثيراته على بلد معين يُسمى “وباء” . أما في حال إنتقلت عدواه إلى بلد آخر ..
فإنه يُسمى ” موتان”.. كما أطلق عليه حكماء أثينا القديمة .
أو الجائحة بتعبير عربي دقيق كما سماه ابو بكر الرازي واستاذه ابو الفضل المسيحي .
والمعروف أن تاريخ البشرية قد شهد العديد الأهوال الطبيعية والقوى القاهرة كالبراكين والزلازل والاعاصير المدمرة ومنها الأوبئة الكارثية التي أخذت بطريقها الكثير من الضحايا .
ولكنها إنتهت في سياق ٍ متسق بظهور لقحات ٍ ناجعة او بإختفائها بعد إنتفاء الظروف الطبيعية التي أدت إلى وجودها أو بإكتساب البشر نفسهم لما يعرف بمناعة القطيع .
ونذكر من هذه الأوبئة والجوائح على سبيل المثال :
أ – طاعون جوستنيان ( 541 – 750 م)
حصد ما يقارب ٥٠ مليون نسمة .
ب –  الموت الأسود ( ١٣٤٧ – ١٣٥١)
وضحاياه من القتلى حوالي ٥٠ مليون نسمة .
ج – الانفلونزا الإسبانية (  ١٩١٨ – ١٩٢٠)
أودى بحياة حوالي ٧٠ مليون إنسان .
بالإضافة إلى بعض الأوبئة التي عرفها العالم مؤخراً مثل  انفلونزا ، الخنازير ، والطيور ، وايبولا .  
وفي سياق ٍ متصل .. عرف العرب القدماء العديد من ازمنة الجوائح  أبرزها على الإطلاق :
١ –  ( طاعون عمواس) الذي ضرب بلاد الشام وكان اول وباء يضرب الدولة الإسلامية ما بين سنة ١٧ و ١٨ هجرية و ٦٣٩ ميلادية .. وكان من مفاعيل جائحة جوستنيان حيث ترافق مع ظروف قاهرة ومجاعة مهلكة … وأدى إلى مقتل حوالي ٣٠ الف إنسان في تلك الفترة .. منهم ابو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان شقيق معاوية والقاضي المعروف معاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة .
٣- ( الشدة المستنصرية) وقد شهدتها مصر في مرحلة الحكم الفاطمي مع الخليفة المستنصر بالله في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري . (١٠٣٦-١٠٩٤) ميلادية .
وقد عرفت بالسنين العجاف نظراً لانتشار الأمراض والاوبئة والمجاعة .
وقد روى المؤرخ ” ابن إياس” والعديد من المؤرخين بأن المصريين في تلك الفترة .. أكلوا الكلاب والقطط والفئران حتى انقرضت …  فقاموا بعدها بأكل جثث موتاهم بل عمدوا إلى قتل الأحياء لطبخهم وأكلهم .. في مشاهد مريعة يصعب وصفها وتخليها .
هذا التقديم الموجز لظاهرة الجوائح سيتبع بعرض المواقف التي برزت في تراثنا الفكري العربي واغلبها يطبق اليوم بتوجيهات من منظمة الصحة العالمية في مواجهة جائحة كورونا والتي حاول عبرها اجدادنا القدماء تفسير ظاهرة الجوائح والتصدي لكارثيتها… والتخفيف من اضرارها وضحاياها على مستوى الأفراد والمجتمع .
“يتبع”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى