اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

فندق «بالميرا» في بعلبك: متحف للذاكرة لم يحن موعد تجديده بعد

جويل رياشي
كما الأحرف القليلة الباقية في لوحته المتدلية من السطح، يصمد فندق «بالميرا» الرابض منذ أكثر من قرن عند المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك: صفحات متناثرة من كتاب تاريخ مفتوح لم يحن بعد موعد تجديده.
 
على بعد امتار من أطلال القلعة الرومانية الشهيرة في المدينة الواقعة شرق لبنان، توقف الزمن عند «أيام العز» للفندق الذي آلت ملكيته منذ ثمانينيات القرن الماضي الى آل الحسيني (من بلدة شمسطار في قضاء بعلبك)، الذين يصرون على الحفاظ على طابعه التاريخي، ويربطون إدخال تحسينات جذرية يحتاجها، بتبدل المشهد في المدينة، ورفعها من «دائرة الخطر» من قبل السفارات الأجنبية، ما يفسح المجال للسياح الأجانب بالإقبال والإقامة في الفندق، وليس فقط زيارة المدينة لبضع ساعات خلال مهرجانات الصيف.
 
الفندق شيده اليوناني ميمكاليس باركلي في 1874، وهو رجل أعمال أرثوذكسي من القسطنطينية أدرك الجاذبية السياحية لآثار بعلبك الرومانية. وقد استضاف الفندق في أوج ازدهاره ملوكا وملكات وأباطرة، فضلا عن كتاب وفنانين وموسيقيين من كل انحاء العالم.
 
اليوم، لم يعد فندق «بالميرا» يستضيف الملوك والملكات أو نجوم المسرح، ولكن بعض السياح الذين يبحثون عن التاريخ بدلا من الرفاهية. هنا في زوايا الفندق، لا شيء سوى التاريخ المعشعش بين الجدران، وفي صرير الاسرة وغبار المفروشات الفاخرة الباهتة اللون، وبين طيات المنحوتات واللوحات المعروضة في الغرف والممرات.
 
يعطيك المدير غسان القرعة مفتاح غرفتك التي تحمل الرقم 26 فتشعر انك ملكت التاريخ بين يديك، كيف لا وهي الغرفة التي اعتادت ان تحجزها السيدة فيروز اثناء اقاماتها المتعددة في الفندق.
 
لا يمل أبو علي المنجل، «عميد» موظفي الفندق عن 52 سنة خدمة، الاجابة عن اسئلة الزوار، وتلقي شكاواهم عن انقطاع الكهرباء ليلا او تعطل دورة مياه الحمام برحابة صدر وابتسامة.
 
لدى العائلة المالكة للفندق خطة نهوض وتطوير جاهزة، وفق ما يشير اليه حسن الحسيني، نجل صاحبيه علي وريما. الا أنه يؤكد ان «الأهل يتريثون، ربما لأن الحركة السياحية والإقامة في المدينة تقتصر على فترة المهرجانات».
 
ويتحدث الشاب المثقف والناشط بيئيا بشغف عن فريق العمل الذي يضم خمسة افراد، من بينهم ابو علي والمدير غسان قرعة وأم خالد المتخصصة في اعداد المناقيش على الصاج للفطور والعصرونية على «سطيحة» الفندق.
 

الا أن «بالميرا» ليس مكانا يحتاج الى تجديد الأثاث، او تحسين الخدمات وترميم الجدران او طلائها و«نفض» الحمامات، فالزائر ينسى كل ذلك عندما يجول بناظريه بين صور المشاهير الذين أقاموا فيه منذ تأسيسه: زعماء كشارل ديغول ومصطفى كمال اتاتورك والملك فيصل الاول والملك عبدالله الاول وشاه ايران والعالم ألبرت آينشتاين، مرورا بعظماء الفن مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز والأخوين رحباني وصباح، الى جان كوكتو ونينا سيمون وايلا فيتزجيرالد، وفنانين تشكيليين لبنانيين كأمين الباشا ورفيق شرف، وصولا الى ابن المنطقة الشاعر طلال حيدر الذي لا يزال يقصد الفندق ويحيي ندوات شعرية فيه.
 
الى الفندق الرئيسي، هناك ما يعرف بـ «الملحق»، وهو مبنى قديم اشترته العائلة منذ اكثر من 20 سنة وتم الانتهاء من تجديده، يقيم فيه حاليا الضيوف الكبار، امثال المهندس المعماري جان لوي مانغي الذي يحضر في ردهة «الملحق»، جاعلا من اقامته لمواكبة مهرجان بعلبك (وهو نائب رئيسة اللجنة التنفيذية للجنته) مساحة للقراءة والتأمل.
 
في المبنى الرئيسي، رافقنا الحسيني الابن في باحات وحدائق خلفية وصولا الى مساحة يعتزم تحويلها الى «بيت للفنانين»، قد يشهد عرض القليل من «كنوز» الفندق من لوحات ومخطوطات.
 
من بينها السجل الذهبي الموزع على 3 دفاتر منذ التأسيس قبل 148 سنة، وحرص والده على الاحتفاظ به ووضعه في خزنة، بعد شراء الفندق من ورثة ميخائيل ألوف رئيس بلدية بعلبك في بداية القرن العشرين، والذي تملك الفندق بشرائه بالمزاد العلني، بعد تراكم الديون على مؤسسه.
 
المبيت في «بالميرا» ينقلك الى عالم آخر: تشعر وكأن قصص الذين تعاقبوا على الغرف من مشاهير وغيرهم لا تزال عالقة هنا تنتظر من يرويها من جيل الى جيل، تصاحبها ليلا اصوات المارة من اهالي المدينة وصخب شبابها لتذكرك بأن الحياة استمرت خارج الفندق ولم تتوقف كما فعلت في داخله.
 
يعترض كثيرون على غياب التحديث ويطالبون بتحسين الخدمات، لكنهم يتفهمون القيمة التاريخية للفندق والتي تتخطى مهرجانات المدينة التي عادت خجولة هذه السنة بعد توقف قسري فرضته ظروف كورونا.
 
ليالي المهرجان تعد على اصابع اليدين حتى في ايام عزها، لكن ليالي «بالميرا» تمتد لنحو قرن ونصف قرن، وستمضي لما بعد كتابة هذه السطور. هي قصة لا تتوقف أي تكن الأسباب، حتى لو اقتصر الأمر على حجز واحد يتيم في موسم 2013 «ولم نقفل»، بحسب الحسيني.
 
باختصار، حال «بالميرا» لا تختلف كثيرا عن حال المدينة. وربما المطلوب تبديل المشهد في بعلبك واخراجها من اجواء الفلتان الامني لبث الطمأنينة في نفوس مرتاديها.
 
وحتى ذلك الحين، يستمر الفندق بالمقاومة على طريقته، حافظا بين ثناياه المزدحمة بالذكريات محطات من تاريخ لبنان ليس اقلها احتضان التوقيع على إعلان لبنان الكبير ـ الذي وضع حدود لبنان الحديث على النحو المحدد في ظل الانتداب الفرنسي ـ بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية.

الأنباء


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى