اخر الاخباربريد القراء

المستشفى التركي…. مسار وانسدادات.. الكلام شيء …. وقساوة الواقع شيء آخر (4/3) بقلم: المحامي حسن شمس الدين

قيل الكثير عن بقاء المستشفى التركي للحروق في صيدا موصد الأبواب .. وقيل الكثير عن المشكلة وحجمها وقلة من تنبه لحقيقتها وعمقها .. 

المستغرب هو إصرار البعض على اعتماد طريقة الأحكام المسبقة عن بعد في مقاربة الملفات ذات الصلة بالشأن العام مما يظهر القليل من الإلمام والمعرفة، حتى أنهم وإن قاربوا الواقع والمشكلة فإنهم يتجاهلونها ويغردون خارج أسبابها الحقيقية 

عندما يصطدم الموقف المبدئي بقساوة الواقع، يصبح الخيار الوحيد مغادرة النمطية المعتادة نحو الاجتهاد وتطويع القوالب، إن القول بأن ما أعاق انطلاق العمل في المستشفى التركي صرحاً تخصصياُ جامعياً هو خلافات في الداخل الصيداوي هو أمر لا يمت للحقيقة بصلة ولا يلامس حتى قشورها .. 

ستة وزراء صحة تعاقبوا طيلة عشر سنوات وثلاث لجان ادارية توالت على إدارة المستشفى .. أموال حجبت .. مبان وأقسام يملأها الفراغ وأروقة يلفها الصمت بعد سنوات من المراوحة والجمود على خط المعالجات وابتداع الحلول.

تراكم الكثير طيلة سنوات وسنوات .. تواريخ وأرقام وقرارات وجهود واقتراحات … وبقيت الأسباب الحقيقية بحاجة للتظهير وللتطابق مع الواقع..  لنضع الأمور في نصابها .. توخياً لعدم الإنجراف نحو مجافاة الحقائق ..

*************************

حليمة إلى عادتها القديمة…. ملكية الأرض

في الأسابيع الأولى لتولي الدكتور محمد جبق مهامه كوزير للصحة العامة بادر رئيس بلدية صيدا برفقة مدير المستشفى التركي للقائه والتقدم منه بشرح مفصل عما وصلت إليه الجهود في المساعي لإنطلاق العمل في المستشفى، ومما سهل الأمر هو أن الوزير كان مطلعاً على الملف وأبدى بدايةً رغبة أكيدة واستعداداً للتفاعل الإيجابي وبدون أي تحفظات مع أي من الخيارات المطروحة إن من خلال الإستعدادات المستجدة من الجانب التركي أو من خلال مسار المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة أو من خلال القدرات الذاتية للوزارة مؤكداً أن المهم بالنسبة له هو أن يكون موعد بدء العمل في المستشفى قريباً.

في نهاية اللقاء عاد وأشار إلى أن موضوع ملكية الأرض ما زال يشكل عقبة يجب معالجتها وهو الموضوع الذي كنا نعتقد بأنه كان قد أصبح خلفنا وتمت معالجته وتجاوزه منذ مدة طويلة “بتسوية ربط النزاع” السالفة الذكر مما أحوجنا إلى إبداء الإستغراب ولفت نظر الوزير إلى ان من زوده بهذه المعلومة قد فاته ولا شك ما أنجز حتى الآن أو أنه (أي من زوده) من هواة ابتكار العقبات بدل ابتكار الحلول، كما جرى الإستفاضة بالشرح التفصيلي للمراحل التي قطعها البحث سابقاً مع فريق الوزارة والوزراء المتعاقبين مروراً بكل الأسس القانونية والإجرائية التي نستند إليها والنتيجة التي انتهت بها الأمور.

مع التمني عليه بأن يمضي قدماً في حماسته ورغبته ونواياه لإنطلاق المشروع وأن يغلب فكرة “الإنجاز” بعيداً عن كل المتاهات والتعقيدات وأنه سيجد بلدية صيدا وعلى الدوام شريكاً متعاوناً وإلى جانبه في كل الخطوات وبروح عالية من المسؤولية والحرص.

وعلمنا لاحقاً بورود مشروع عقد إيجار طويل الأجل ببدل رمزي معد بصيغة إتفاق بين بلدية صيدا ووزارة الصحة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء وطبعاً بدون علم البلدية أو موافقتها سعياً إلى إقراره أصولاً الأمر الذي كان من الطبيعي أن تعترض عليه بلدية صيدا وترفضه وتبدي توجسها من تسلل هذا الموضوع المفتعل وإعطائه الأولوية على ما عداه من الأولويات الأخرى.

الأمر الذي أظهر حقيقة وجود قرار ضمني أحادي الجانب متخذ أو مبت وغير معلن وغير مصرح عنه من شأنه أن يؤسس لمسار عملي للوزارة باتجاه الإعتماد على قدراتها الذاتية (والتي نعرف مدى شحها وتقلصها) والإغلاق النهائي للأبواب بوجه أي من الخيارات أو الفرص الأخرى وبعد أن كانت الجهود للإستفادة من الإستعدادات التركية ومن مسارات الشراكة مع القطاع الخاص قد قطعت أشواطاً.

لاحقاً توالت الإجتماعات مع المستشار القانوني لوزير الصحة، والحق يقال بأنه كان عازماً وصريحاً لإيجاد معالجة ما لما كانت تعتبره الوزارة عائقاً (موضوع ملكية الأرض) ولم يتوقف عن الإستمرار في تكرار تأكيد جدية وجهوزية الوزارة لتأمين السلفات المالية المطلوبة لإفتتاح المستشفى وبدء عمله وكل ذلك فور إتمام التذليل إياه.

من جهتها بلدية صيدا لم ترى داعياً أو مبرراً للعزف مجدداً على موضوع ملكية الأرض كعقبة بعد أن تم ومنذ سنوات طويلة التسليم بانعدام وجوبها، وثُبت ذلك منذ البداية باعتبار كون قرار البلدية رقم 218 تاريخ 23/9/2008 بتخصيص العقار كان أكثر من كاف للمضي نحو أي خطوة مستقبلية لإنطلاق المشروع واستكمال رخصه وإنشاءاته وتجهيزاته، وثبت ذلك أيضاً بصدور مرسوم ضمه لملاك وزارة الصحة كمؤسسة عامة، وكإقرار صريح بكون ملكية الأرض لا تشكل العقبة المزعومة للمضي نحو مسيرة التشغيل وتحقيق الغايات المنشودة.

إن موقف بلدية صيدا كان وفي كل المراحل ومن خلال كل قنوات التواصل شديد الثبات والوضوح لجهة التزامها بأقصى مستويات التنسيق والتعاون مع وزارة الصحة العامة ولم تخف بذات الوقت رفضها لفكرة نقل ملكية العقار كما رفضها لفكرة توقيع عقد إيجار طويل الأمد ببدل رمزي أو بخلافه.

الرفض هذا كان حاضراً في كل خطوة تتعلق بمشروع المستشفى وتأكيداً لمنطلق تمسك البلدية بالدور والحقوق، ومن منطلق تحمل مسؤولياتها الكاملة تجاه مدينتها للإبقاء على غايات المشروع بكل أبعاده التخصصية والجامعية وبما يجعله قيمة مضافة للقطاع الصحي الإستشفائي في المدينة ولا يجعله تكراراً يضاف إلى تعداد المستشفيات القائمة والعاملة (الكافية أصلاً) وبما يحفظ لها (أي البلدية) موقع الساهر والمراقب لإبقاء الأولوية في التوظيف لأبناء المدينة.

الكورونا تفتح كوة !

وبقينا على هذا الإصرار لحين مبادرة زميلنا المستشار الذي استمر في مهامه مع وزير الصحة الجديد الدكتور حمد علي حسن للتواصل مع البلدية والإطلاع على حدود المرونة الممكنة لديها وليعرض وخلال إحدى الإجتماعات فكرة تزويد الوزارة بصورة طبق الأصل عن قرار المجلس البلدي لمدينة صيدا رقم (218) تاريخ 23/9/2008 على أن تكون مصدقة بتاريخ حديث، الأمر الذي تم التجاوب معه فوراً وليعود لنا بعد فترة لتزويدنا بمسودة عقد تخصيص (تثبيتاً لقرار بلدية صيدا رقم 218 تاريخ 23/9/2008) وقوله لنا بأن توقيع هذه المسودة سيكون هو الحل لما يسمونه “عقدة” في طريق تحويل السلف المالية التي على حد ما يزعم ويتم تكراره بأنها متوفرة غب الطلب للمشروع.

وكان الحديث يومها كما أذكر عن مبلغ 5 ملايين دولار جاهز ويمكن اقتطاعه من مساعدة خارجية للبنان وصلت تحت عنوان جائحة الكورونا (أي من خارج موازنة الوزارة) وهو المبلغ الذي تمت الدعوة من قبل دولة رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 18/4/2020 إلى حفل للإعلان عنه بمبنى المستشفى ومن ثم تم الإعلان عن إلغاء الحفل بمبررات متناقضة بين رئاسة الوزراء ووزارة الصحة، ويومها كثرت الإشاعات والتأويلات وفبركت السيناريوهات مع بعض التذرع بأسباب برتوكولية، والتي لم تكن بمجملها مقنعة وجرى العمل لإلصاقها خلافاً للحقيقة بخلافات محلية مزعومة تخص المدينة،

بالمناسبة إنه المبلغ (5 مليون دولار) ذاته الذي تقلص لاحقاً إلى مبلغ 6 مليارات ليرة لبنانية وتم تحويله مؤخراً (في النصف الأخير من العام 2020) لحساب اللجنة الإدارية للمستشفى التركي.

لقد اعتبرنا أن مسودة عقد التخصيص المقترحة قد جاءت تحت سقف قرار بلدية صيدا رقم 218، وتعني ضمناً ووفقاً لطريقة الصياغة وتحديد المندرجات تراجعاً وتخلياً من الوزارة عن فكرة نقل ملكية العقار وعن فكرة عقد الإيجار طويل الأمد مما مهد لتوقيع “عقد التخصيص” من وزير الصحة العامة ورئيس بلدية صيدا في شهر أيار عام 2020 بعد أن أضافت هذه الأخيرة عليه، بعض التعديلات لإبقاء أولوية التوظيف لأبناء المدينة وأن يبقى لها حق الرقابة عند الضرورة للتثبت من أن العقار المخصص مستمر بتحقيق الغاية التي خصص من أجلها وبأن العقار سيحرر من قرار التخصيص وسيعاد حق التصرف المطلق به للبلدية إذا تبين أن الجهة التي خصص لها لم تعد بحاجة إليه أو في حال انتفاء الغاية.

الجمود يعاكس الحلول

بمعزل عن المضي بأي من الخيارات المتوفرة / وزارة الصحة/ الإستفادة من إستعدادات الجانب التركي/ مسار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص/ يبقى الثابت الأكيد لدينا ربطاً باستكمال تجهيز المستشفى وتهيئة بنيته التحتية للعمل وتحديد الحاجات الأساسية للتوظيف في المرحلة الأولى وتحديد مراحل العمل والتوسعة واحتياجات كل مرحلة ربطاً بجدولها الزمني وتقدم العمل ومقارنات التوازن بين الإنفاق والدخل، هو ما تكون لدي من قناعة بأن فتح أبواب المستشفى لإستقبال المرضى وانطلاق العمل هو خطأ كبير ومغامرة غير محسوبة وبداية محكومة بالفشل وتدرج في خانة الدخول في المجهول ما لم يتوفر مبلغ 6 مليون دولار لاستكمال التجهيزات والصيانة وتأمين المستلزمات وتوفر6 مليون دولار أخرى مسبقاً وكإحتياط لرأسمال تشغيلي وكضمان لتغطية كلفة الرواتب والأجور لمدة ثلاث سنوات.

وما يجعلني اليوم أكثر تمسكاً بهذه القناعة هو الواقع المأساوي للمستشفيات الحكومية في البلد من أقصاه إلى أقصاه، فهو وبأبسط التعابير واقع مأزوم وهو جزء من أزمة القطاع الصحي والإستشفائي برمته والذي وصل إلى مرحلة خطيرة باتت تهدد أمن المواطنين الصحي والإجتماعي وحياة المرضى، فهناك عجز الدولة المتفاقم عن تسديد مستحقات المستشفيات الحكومية والخاصة والإنعكاس المباشر لذلك على الإلتزام بتسديد رواتب الموظفين والعاملين، إذ أن هناك تراجع كبير في جودة الخدمات وفي القدرة على متابعة توفير الخدمات الطبية والعلاجية والجراحية وتدني مخزون المستلزمات الطبية والنقص في مختلف أنواع الأدوية، وعدم توفر لائحة طويلة من المستلزمات الجراحية التي تطلب عادة لكل حالة بمفردها وفي ظل اتجاه تعجيزي لدى كافة الموردين للمستشفيات للمطالبة بتسديد المستحقات على نسبة 85% نقداً بالليرة اللبنانية و15% بالعملة الأجنبية كشرط لمتابعة التسليم.

إننا نعيش الزمن الذي يتلقى به القطاع الصحي الصفعة تلو الصفعة ويتم التأكد من أننا في المسار الذي سيؤدي حتماً إلى تسارع انهيار القطاع الصحي، وفي ظل هذا الواقع وعوض أن يعمل المسؤولون على بحث سبل معالجة مشاكل هذا القطاع الحيوي تراهم يزيدون الأمور تعقيداً، ومما يجعلنا نستفيق يومياً على مشكل جديد عوض المساعدة على تحسين الوضع.

كيف يمكننا وفي ظل هكذا ظروف وبغياب الثقة بإمكانية توفير الحد الأدنى من الإمكانيات المطلوبة أن نشجع على الإنطلاق لفتح باب التوظيف في المستشفى التركي تمهيداً لفتح أبوابه وانطلاق العمل به وبدون أي ضمانة أو اطمئنان لإمكانية تأمين المستلزمات الطبية أو الإلتزام بتسديد رواتب الموظفين علماً أن مناسبة هذا الكلام تتزامن مع “احتفال” المدينة بمرور خمسة أشهر على عدم دفع رواتب الموظفين والعاملين في مستشفى صيدا الحكومي!!

ولينبت أمامنا ومن خارج السياق من يدعي المعرفة ويستحضر مقاطع من أفلام قديمة مللنا من تكرارها، بغية تضليل الناس والتشويش محاولاً الإيحاء أو اختزال مشكلة المستشفى التركي وبعيداً عن الحقيقة والواقع بـ آفة “التناتش على الحصص في تعيين اللجنة الإدارية” أو بسبب آفة “التناتش على التوظيف” في الوقت الذي يعرف من لديه الحد الأدنى من الإطلاع والمتابعة بأن المشكلة الأساس هي في مكان آخر وهي أعمق وأصعب من هكذا توصيف وجدية أكثر بكثير من هكذا ألاعيب وكسب آني.

“يا ريت”، كانت المشكلة بحدود ما نسمعه من توصيفات لكان من السهل معالجتها وتجاوزها خاصة وأن السلوك السائد لدى كل المراجع التمثيلية والأطياف كما لدى المزاج العام في المدينة وبغض النظر عن التباينات السياسية قائم على نوع من الترفع وتقديم كل ما له صلة بمصلحة المدينة وأهلها على ما عداه وليظهر أن التطلع للخدمة العامة وتحقيق مصلحة صيدا وأهلها هو الراسخ في المدينة كنوع من الثقافة الثابتة.

بعد كل ذلك…

من أين لنا أن نستحضر التفاؤل؟؟

                                                                       يتبــــــع….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى