اخر الاخباربريد القراء

رفيق الحريري … البدايات .. وطقوس الإشارات. (3)

بقلم المحامي حسن شمس الدين

·       الإشارات التأسيسية لإطلالته اللبنانية.

·       عناد المناضلين.

·        مواجهة الدمار ببناء مستقبل زاهٍ.

·       وحدة وطنية ولو على بقعة صغيرة.

*****************************

انسجاماً مع القواعد البديهية والطبيعية لتطور الأمور ، تبرز بواطن معاندة الجديد والتمسك بالمعتاد والاستبسال من اجل الحفاظ على الحيثية الذاتية والتمسك بالأنانيات وحب البقاء ، ما يساعدنا على فهم معنى الحفاوة الاستيعابية التي استقبل بها رفيق الحريري على امتداد الساحة اللبنانية يوم أرادوا اعتباره على خانة الخارج واطمأنوا لظهوره وسيطاً ” وصف يومها بالسخي ” لتذليل العقبات وابرام التوافقات على الرغم من أنه كان قبلها بسنوات قد بدأ حضوراً أغدق به على الشباب اللبناني بعدد كبير من فرص التعليم والعمل ومستثمراً في المشاريع ذات الأبعاد الدراسية والبحثية والتنموية والتربوية والطبية والانسانية، وليتهافت الجميع للتقرب منه والتواصل معه وكسب وده والتماهي مع مساعيه والثناء على جهوده والاستفادة من تقديماته وتسهيلاته لحدود التنافس لتبوء الصدارة في مدى الاقتراب والتفنن بإيحاءات الانسجام ووحدة الحال.

 لينقلب المشهد تدريجياً الى نقيضه ولتستبدل الحفاوة بالحذر والتوجس والارتياب لا لسبب سوى لكونهم استشعروا جموح أولوية لبنانيته وعمق انتمائه الوطني وتجذر الهوية والانتماء لديه كما استشعروا اقترابه من المعادلة الداخلية (أي من أدوارهم) ومن قواعد ارتكازاتها، واحتاطوا من اقترابه من الخطوط الحمر التي لطالما رسموها بوجه كل من يحاول ان يعبر عن نفسه سياسياً مما أشعل وتيرة تحسس الرؤوس والحسابات لقياس ورصد مدى تضرر كل حيثية ولمدى التغيير المتوقع في الممالك والامارات، وفي معادلات توزع السلطة والنفوذ والتي يلطّف وصفها عادة في الحياة السياسية اللبنانية بالتوازنات.

إن الموضوعية أمام هذا النوع من الجدليات والتجاذبات تقودنا حكمًا لضرورة السعي للاستعانة بكل ما من شأنه المساعدة على تصويب المشهد والسياق وتدفعنا للعودة الاضطرارية إلى البدايات والاستحضار الهادئ لمخزون الحقائق والإشارات التي سادت في زمانها وتكلمت عن ذاتها وتميزت بلفظ الترويج ومكنت من اختاروا مسار الفصل بين الجد والأوهام بما يظهر الوقائع على حقيقتها وحقيقة أحجامها.

هنا ترانا نقترب من التعامل مع “الإشارات” التأسيسية لإطلالته اللبنانية والتي كانت خير معين لكل من شده الاهتمام لالتقاط جوهر ومعنى المدلولات والتي تلاقي باشتعالاتها ورمزيتها وقلة الافصاح والتبجح في مسارها، ما قصده المبدع الكبير سعد الله ونوس في رائعته “طقوس الإشارات والتحولات” يوم لم يبق أمام راجحي العقول من وسيلة لاستنباط الأعماق والحقائق سوى “الإشارات” والتي لغزارتها تمكنت من ان تظلل المرحلة التي سبقت قرار رفيق الحريري باقتحام المشهد السياسي، إشارات تتالت بتميزها وتسابقت بفرادتها وحجمها على مدى السنوات التي تجاوزت العقد، وانتشرت باحتمالات مغازيها لتملأ المكان على امتداد الوطن وليسود معها الرصد المضني حول ما يختزنه هذا العقل وهذا الجديد القادم من خلفيات وإسنادات ملؤها عديد الثوابت وعميق الاقتناعات والتمسك بالأهداف وليتماهى في متانته وجديته، ما اعتدنا وصفه بعناد المناضلين، وليبرع في ابراز مزيجه الخاص المكون من أقانيم ثلاثة: الإرادة، ورجاحة التفكير، وشجاعة البذل معززين بمرونة استيعاب الصدمات لديه يوم تراه يرى في كل انسداد فرصة نحو المزيد من الاقدام والإنجاز وهو القابض على مفاتيح المبادرة وليترك للآخرين رحابة الانتقاء من تلك الإشارات ما قد يرونه مفيدًا، وترانا وفي حدود ما نحاوله هو استخدام بعض عيناتها خدمة للمقاصد وفقًا لتتالي جدولها الزمني قدر المستطاع.

عن لسان أحد الضالعين في معادن الناس والذي شاءت الصدف والظروف وفي سياقات يصعب شرحها وتفسيرها ان يكون رفيقه دون انقطاع لأكثر من خمسة وعشرين عامًا ويتبوأ لديه ومعه الكثير من المهام الأساسية ويجاريه لاحقًا لالتقاط اشاراته وحدود أحلامه، ربطتهما علاقة معقدة لكونهما مختلفين بكل شيء، ما عدا الأشياء الجوهرية علاقة سادها الكثير من التفاوض والتشاحن وليجزم بالتعريف عنه بكونه كان قوميًا عربيًا باتجاه ناصري صريح وبأنه لم يتنكر يومًا لعروبته أو لإيمانه بأن الوحدة العربية هي الحل وإن كان دون تحقيقها أهوال وأجيال.

وينقل عن آخر، أحد رفاق البدايات واقعة أنه وبعد أن شاهد معه دعاية إسرائيلية تفاخر بأن الصهاينة أحيوا الصحراء العربية في فلسطين وزرعوها وأنها باتت تنتج الزهر، والفواكه، والخضار ليقول له “سوف ترى، حين يصبح معي مبالغ كبيرة من المال كيف سأحيي لبنان”. الواقعة على جزئيتها واقتضابها تتيح الكثير من الالمام بالرؤية المحركة لهذه الطاقة الكبيرة وللمستفز لديها وكانت (أي الواقعة) بمثابة المفتاح المساعد لقراءة مبادراته اللاحقة ودحضًا حاسمًا لاعتبارها نوعًا من “العجالة” أو “الارتجال” أو أنها بِنْت ساعتها كما كان ينحو بعض المزاج وقتها للوصف.

اشارة كفرفالوس عام 1981 تحاكي بسرديتها التزامه وردة فعله وثباته عند تعابيره المقتضبة التي أوردها رفيق الحريري تعليقًا على “الدعاية الإسرائيلية” تلك بالأفعال يوم فاض بجديته وضخامة استعداده كل ما يتخيله عقل.

“تقع كفرفالوس في منطقة وسطى بين صيدا عاصمة الجنوب وجزين، أكبر تجمع مسيحي فيه. وعلى بعد عدة كيلومترات معدودة من حدود الاحتلالالإسرائيلي، وعلى بعد كيلومترات أقل مخيم عين الحلوة. وهذه الأماكن هي من أكثر النقاط اشتعالاً في الحرب اللبنانية، وفي كل عدوان تستهدف به إسرائيل الفلسطينيين، دون تفريق بين مدنيين ولاجئين ومقاتلين”.

هذا الواقع لم يكن غائبًا عن ذهن رفيق الحريري، عندما قرر البدء بتنفيذ المشروع، إنما كان دليلاً على تجذره في الجنوب وإصراره على احيائه، وانعاشه وإخراجه من دائرة الحرمان التي وقع فيها، لأن الدولة أو قسمًا منها كان يتذرع باحتمالات الاعتداءات الإسرائيلية لتمتنع عن تنفيذ المشاريع فيه فكانت النتيجة أن الحرمان المقرون بالعدوان أدى الى هجرة جنوبية كثيفة إلى بيروت. فكرة جريئة؟ حلم؟ خيال جامح زاد من جموحه توفر الوسائل المال؟ كله معقول. والأعقل أن رفيق الحريري باشر فورًا بالتنفيذ بعد الانتهاء من التخطيط والتصميم، وفي أقل من سنة بدأت تظهر أبنية ومجمعات، وكان الناس يشاهدونها تنهض ولا يصدقون.

سجل الدكتور سليم كتفاكو عميد كلية الهندسة في جامعة القديس يوسف أنه في شهر نيسان 1980 اطلع من صديق له أن هناك رجل أعمال كبير يدعى رفيق الحريري يرغب في إنماء وطنه انطلاقًا من منطقته وأنه يود التعاون لتحقيق هذا الشأن مع جامعة القديس يوسف التي كانت تسعى في هذه الفترة، بتوجيه من الأب دوكرويه لإنشاء مشروع جامعي في منطقة البرامية، وهكذا تلاقت في الوقت المناسب الرغبة والنية.

في 10/آيار/1980 عقد الاجتماع الأول مع رفيق الحريري بحضور الأب جان دوكرويه، السفير لويس دولامار، السيد إيلي شعيا، المهندس كمال درغوس والمهندس الفرنسي كوليو والدكتور كتفاكو وقام الحريري بعرض رؤيته وبرنامجه لإنماء منطقة صيدا وكذلك الأب دوكرويه، وليخلص الدكتور كتفاكو القول:

“ترك هذا الاجتماع انطباعًا غريبًا في نفسي وكان يخال إليّ أن رؤية الحريري وأفكاره وكلماته هي مجرد حلم لجمالها وصدقها وعمقها، وفي طريق العودة الى بيروت سألت الأب دوكرويه عن رأيه وإذا كان ما سمعناه هو مجرد كلمات لرجل يحلم، أم نحن أمام ثائر على الوضع الراهن يريد مواجهة الدمار ببناء مستقبل زاهٍ، فأجابني أن هذا الرجل يبعث بالثقة”.

كان هذا الاجتماع مهمًا للغاية إذ شكّل الحجر الأساس التي بنيت عليه الثقة المتينة التي واكبت علاقة جامعة القديس يوسف بالحريري وتعرفنا عن كثب على حلم وعلى مشروع الحريري في منطقة كفرفالوس فكانت هذه المنطقة همزة وصل بين الساحل والجبل، بين المواطن المسلم والمواطن المسيحي، وأرادها الرئيس الحريري واحة رجاء في زمن الحرب والاقتتال.

بدأت ورشة البناء في أوائل تشرين الأول 1980 وكان حماسي واعجابي بالحريري يزداد يومًا بعد يوم إذ كنت أكتشف في كل مناسبة ميزة جديدة من مزاياه المتعددة: نقاوة الرؤيا، تحديد الأهداف بوضوح، إرادة العمل الجاد لتحقيق الأهداف، انسانيته وكرمه،

لتتوالى يومها الإنجازات وكانت في طليعتها :

أولاً: جامعة صيدا ومركز الدراسات ( تشرين الأول من العام 1981 ) .

ثانياً : مركز الحريري الطبي ويضم ” المستشفى ومعهد التمريض ( أنجز صيف العام 1982).

ثالثاً : الحضانة والمدرسة (في تشرين الثاني من العام 1982 ).

ويلفت كتفاغو الى انه في آذار 1982 يوم قام بزيارة الرئيس الحريري في باريس ليضعه بالأجواء المشجعة التي كانت تسيطر على مسيرة المشروع ، بادره ( الحريري ) بالحديث قائلاً: ” هل تتذكر يوم كنت متخوفاً من ان لا تكون الجامعة في كفرفالوس لجميع اللبنانيين ولجميع المناطق ؟ . هل تتذكر يوم فاتحتك بنظرتي الى المستقبل وسعيي الى جمع شمل اللبنانيين الذين ما زالوا يتقاتلون ؟ فما رأيك بما حدث في كفرفالوس ؟ الم اكن على حق ؟ ألم يتحقق الكثير من الذي كنت اسعى اليه من وحدة وطنية ولو على بقعة صغيرة من الأراضي اللبنانية ؟ .

بأن اجابته ( اي كتفاغو ) ان ” الذي يحدث في كفرفالوس مطابق الى حد كبير لتطلعاته ،

وان ما يجري هو نقيض التيار الذي كان يهيمن على الوطن “!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى