اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

الانهيارات تأخذنا إلى زمن الحرب مجدداً: عودة “تقنيات البؤس”

نادر فوز

دارت الدنيا باللبنانيين مجدداً. قد تلخّص عبارة “الانهيار” الكثير، إلا أنها تبقى غير كافية لوصف ما يحصل. يمكن في كل تفصيل من تفاصيل حياتهم اليومية، أن تُكتب رواية أو أن يُصنع فيلماً. وإلى المزيد من علامات الانهيار نسير، الأسوأ لم يأتِ بعد. دولار افتراضي غير قابل لِلَمس. تقنين كهربائي خير تعبير عن الظلمة وسوء الأحوال. رفوف تعاونيات فارغة بقدر فراغ عيون تجّار وأمعاء بشر. عاد اللبنانيون إلى حيث لا يشتهي أحد أن يكون. دارت عجلة الحياة، والتاريخ ودروسه، وكأنها تعيدهم إلى نقطة البداية، بداية لبنان الكبير وما سبقه من فواجع وقهر وجوع وعوز. من سوء إدارة وفساد وحروب وصراعات. 100 عام من التجارب المستمرة، من اللوعات والانهيارات، والعجلة تدور من جديد.

عتمة بيروت
غرقت بيروت بالعتمة ليل الثلاثاء-الأربعاء. التحقت بسائر المناطق الأخرى، وحلّت عدالة ظلم التقنين الكهربائي. وكان أصحاب المولدات الخاصة قد استبقوا كل هذا بالتقنين أيضاً، فحلّت العتمة التامة. لا كهرباء، فلا تلفاز، ولا مكيّفات هواء، ولا إنترنت. فقط عتمة. سكوت تام في المدينة باستثناء نقيق بعض صراصير الليل على ما تبقى من أشجار لا يتعدّى عددها الخمس في الشارع القريب. عتمة تفتح عيون العقول على ذكريات مماثلة في ظروف مماثلة. تمرّ كأنها مشهد سينمائي لا إعلانات فيه، بل قهر فقط.

ذكريات تؤذي
في عتم التقنين، تعود ذكريات عن تجارب شخصية وعامة، عن حال مشترك سابق يبدو كأنه يتكرّر. عن كوارث الحرب والانهيارات السابقة وتفاصيلها اليومية وما حملته من مآسي تدق أبوابنا من جديد. عن جمع المياه في دلاء، عن “اللوكس” وضوئه الأبيض، عن تخزين أكياس الشموع، عن تموين علب جبن مطبوخ وتونا وسردين، عن تكديس أكياس الحبوب والأرز. عن الزحمة أمام الأفران وفي التعاونيات. عن جدولة مواعيد العودة إلى المنزل ومواقيت الزيارات بما يتناسب مع التقنين الكهربائي. عن شنط يد جاهزة على الدوام، فيها أوراق ثبوتية وأخرى ضرورية وبعض المال. وشنط ثانية فيها أدوية ولوازم أخرى أساسية.
من قال إنّ الذكريات لا تؤذي؟

وهم أكبر
عادت هذه الذكريات وانتعشت قبل مدّة. أعادت العتمة التامة تشغيلها. عزّز إحياءها تكرار بعض من مشاهدها من جديد. تدهور وانهيار عامّين، ولا حل في الأفق. ولا مهرب من إعادة عيش هذه المأساة. فلا بد من إعادة تشحيم مستلزمات البقاء في مدينة الموت. بيروت في العتمة، وربما كما يجب أن تكون على هذه الحال منذ زمن. ربما لم يكن إخراجها من عتمتها قبل عقود بالخيار الصائب. في إنقاذها السابق شراء للوقت وضياع له في الآن نفسه. فيه توهّم وأحلام زائفة. وفي إنقاذها اليوم وهم أكبر.

“بحبوحة” الحرب
تعود بنا الحياة إلى زمن الحرب، ولو أنّ المحاور لم تركّب بعد ولا أصوات قنص وقذائف في الخلفية. لكن زمن الحرب يتجلّى في بؤس اليوميات، حتى بات البعض يتمنّى لو تعود الحرب. فإن كانت تأتي بالويلات والموت والتقسيم، إلا أنها تحضر معها مالاً أيضاً. هذا ما يأتي في شهادات عجائز مجتمعين حول طاولة زهر في أحد أحياء بيروت. نعيش ويلات الحرب بلا أصوات مدافع فلما لا نعيش نعيم أموالها؟ قد يكون التفكير بهذه الخلاصة ضرباً من الجنون، لكن الناس تريد أكلاً وشراباً بأي ثمن أتوا وعلى يد أيّ كان. “بحبوحة” الحرب، هذا ما بات بعضنا يتمنّاه.

بعض عرّافي السلطة وأجهزتها تنبأ بعودة الحرب. لو قدّر لهذه الحرب أن تقع، استعادة شعاراتها أمر طبيعي، مع واجب قولبتها وتوظيفها بما يخدم مجتمع الموت هذا. علّه يعيش بعد عقد أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر. شعارات اليمين كما اليسار، “على كل لبناني أن يقتل مسؤولاً” أو “طريق الدولة تمرّ من الحارة”. وهم الحرب، كما وهم السلم، والعيش المشترك وبناء الدولة. كلها أوهام والحقيقة واحدة: الانهيار واقع. 100 عام من الانهيارات، والعجلة مستمرة بالدوران.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى